الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

شرفات الناعم

د. نضال الصالح

سبع وعشرون مجموعة شعرية، ووحيدة بالمحكي، وثلاثة في النقد، وكتاب سيرة ذاتية، و”شرفات للشعر والثقافة” هو مجموع ما صدر إلى الآن موقّعاً باسم الشاعر عبد الكريم الناعم، الصوت الإبداعي المُفرد بنفسه من جيل الستينيات الذي ينتمي إليه، والذي مثّلَ، ولمّا يزل، علامة فارقة في حراك التجربة الشعرية السورية الحديثة والمعاصرة، ولعلّها ستبقى على الرغم من ازدحام المشهد الثقافي السوري منذ ذلك العقد إلى الآن بآلاف الأصوات التي لا تغادر ذلك التصنيف الذي قال به شاعر مجهول كما تحكي كتب التراث: شاعرٌ يجري ولا يُجرى معه، وشاعرٌ يخوض وسط المعمعه، وشاعر لا تشتهي أن تسمعه، وشاعر لا تستحي أن تصفعه.

“شرفات للشعر والثقافة” كتابٌ جديدٌ للأستاذ الناعم، الكبير إبداعاً وقيماً. ويتضمّن واحداً وستين مقالاً كان معظمها نُشرَ في الصحف السورية بين نهاية العقد الأول من هذه الألفية والسنوات الأربع ممّا يليه، وهي تتوزع بين شاغلين اثنين: الشعر، والثقافة. الأول من خلال غير سمة تعنيه: الشكل، والإيقاع، وقصيدة النثر، والغنائية.. والثانية من خلال غير صورة لأفعال الحتّ والتعرية التي تتناهب الثقافة السورية منذ عقود: من احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، إلى النقد المحكوم بالأيديولوجية، فالانتقائية النقدية، والعشائرية الثقافية، وخيانة المثقف، والإدارات الثقافية الرثّة، فالإعلام الثقافي، وسوى ذلك من مظاهر وظواهر تمعن في اغتصابها الحقيقة، وتترك هذه الأخيرة نهباً للعراء.

ولعلّ أبرز ما يميّز المقالات جميعاً أنّ الناعم يقول ما يريد قوله بطريقة وثيقة النسب مع اللفظ الدالّ على الأسرة التي يحمل اسمها، بل مع الصفة التي تحيل عليه، فهو يقارب موضوعاته بكثير من النعومة، والرِّقة، واللطف، واللباقة، المفرطة أحياناً، مع الآخر المختلف مهما يكن من أمر أنّ هذا الأخير على قطيعة تامة، أو تكاد، مع القيم الأولى لثقافة الاختلاف، أو طاعناً في الزيغ والتيه.

وعلى سبيل المثال، فإنّ الناعم، وهو يفنّد الأخطاء الكثيرة التي وقع فيها معدّو ما سُمّي أنطولوجيا الشعر السوري التي أصدرتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، يفعل ذلك بكثير من الحرص على قول ما يعني محتوى الأنطولوجيا، لا ما يعني الفقر المعرفيّ المدقع لمعدّيها بالمشهد الشعريّ السوريّ، أو انحيازهم إلى أصوات دالّة على أيديولوجية بعينها، أو ضربهم عرض الحائط بلوحة الفسيفساء المعبّرة عن هذا المشهد الثريّ بمختلف أشكال القول الشعريّ: الخليليّ، والتفعيلة، وقصيدة النثر. وهو، بالإضافة إلى ذلك، يؤثر الذهاب إلى مقاصده بما يشبه الهمس، وبما يزهو بجملة نقدية طاهرة من أوهام اليقين، ولا تصادر على الآخر حقّه في الاختلاف.

وعامة، فإنّ الأغلب الأعمّ من المقالات أشبه ما يكون بمشروعات أبحاث، ومن قرائن ذلك أنّ الناعم يمسك بتلابيب مادته من أول كلمة فيها إلى نقطة النهاية منها وفق خطّة مُحكمة البناء، ومرتّبة ترتيباً منطقياً، وبلغة باهرة خالية من التعقيد والتقعر وزيف الحداثة، كما يضبط مصطلحه النقديّ، وينأى بنفسه ونصّه عن أحكام القيمة التي تمثّل القاسم المشترك الأعظم بين ما يزعم نسبته إلى النقد.

وبعدُ، وقبل، فإنْ كان الناعم جديراً بوصفه شاعراً فارع القامة الإبداعية، وهو كذلك بحقّ، فإنّه جدير أيضاً بوصفه كاتب مقال ينتسب إليه وحده، ويشير إليه وحده من دون أن يكون ممهوراً باسمه.