العقل والعاطفة
يُقال عادة إن المنطق نقيض العاطفة، فهل هذه حقيقة، أم مجرد وهم؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نتفق على تعريف للاثنين.
يُقصد بكلمة “منطق” هنا ثلاثة مفاهيم متمايزة: الأول هو ملكة العقل بمعنى قدرة التفكير أو الفهم أو الاستنتاج، والثاني التسويغ أو التفسير، والثالث هو العقلانية، ويتضمن الحُسبان، استناداً إلى بعض المعايير المسلّم بها، سواء أكان عبارة أم تسويغاً أو تفسيراً عقلانياً بدرجة كافية أم لا. مثلاً، تضمّ عبارة “أريد أن أذهب إلى المتجر لأبتاع بعض الأسماك الاستوائية” تسويغاً هو “لأني أريد شراء بعض الأسماك الاستوائية”، لكن قد لا تبدو هذه العبارة منطقية في نظر امرئ يعلم أن ذلك المتجر بقالة وليس مسمكة!.
أما “العاطفة” فلها نوعان: مشاعر العقل ومشاعر الجسد، أمثلة الأول كثيرة منها الحماس والسخط والغفران، لكن المقال سيركز على مشاعر الجسد على أمل أن يتضح سبب وجود شرخ بين القلب والعقل بادئ ذي بدء.
يقول الفيلسوف توما الأكويني في كتابه “الخلاصة اللاهوتية”: يصاحب جميع مشاعر الجسد زيادة أو نقصان في معدل ضربات القلب. يتضح ذلك إذا تأملنا ما يحدث لقلوبنا عندما نأكل أو نشرب أو ننخرط في نشاط عدواني أو غرامي، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأنشطة ليست مشاعر في حدّ ذاتها، وإنما أنشطة تستحث المشاعر نتيجة الانخراط فيها. في الواقع، قد ينخرط المرء عادة في أنشطة الأكل والشرب والعراك أو ممارسة الجنس لأنه جائع أو ظمآن أو غاضب أو مستثار، وهذه مشاعر ترتوي وتخمد بالانخراط بالأنشطة المقابلة لها. لنأخذ شعور الجوع مثالاً، إنه شعور ينشأ في الجسد، وتحديداً المعدة، ويمكن أن يأتي بدرجات متفاوتة، لكن شعور الجوع ليس جزءاً من ملكة العقل، وهذا الأمر يشمل كل المشاعر الجسدية، هذه إحدى سبل فهم الشرخ بين العاطفة والعقل.
محاولة رأب الصدع
تنتج ملكة العقل أسباباً، بمعنى أفكار يُعبّر عنها في صورة تسويغات أو تفسيرات منطوقة، فإذا اقترحت -مثلاً- على صديقي أن “علينا تناول الطعام لأنني جائع”، فإن عبارة “لأنني جائع” تعمل عمل سبب أو تسويغ لرغبتي في أن أتناول طعاماً ما، بهذه الطريقة يمكن استخدام العاطفة كسبب للفعل، بل يمكن جعلها مفهومة لملكة العقل، لذا فإن تقديم الأسباب استناداً إلى المشاعر هو أحد الطرق لسد الفجوة بين العقل والعاطفة.
أما الطريقة الأخرى للتفكير في الانقسام بين العقل والعاطفة فهي أن نلاحظ أولاً أن المشاعر لا إرادية بعض الشيء، وهذا يعني أننا لا نستطيع التحكم بشعورنا بالجوع أو العطش، في حين أن تحكمنا بشعور الغضب أو الحزن ضئيل.. وهلمجرا. لكن بإمكاننا التحكم في طريقة تصرفنا وفقاً لمشاعرنا، لذلك نحن مسؤولون عن عواقب هذه التصرفات.
بإمكان ملكة العقل أن تقرّر كيف نتصرف بناءً على مشاعرنا من خلال الأسباب التي نقدّمها، سواء أكانت أفعالنا معقولة أم لا! لذا فهذه طريقة أخرى لرأب الصدع بين العاطفة والعقل. على سبيل المثال، يمكن أن تؤخذ عبارة “خرجت لأجري حتى أعيد توجيه غضبي وأستغله في أمر مفيد” للتعبير عن الاستخدام العقلاني للغضب، إذا كان معيار الاستخدام العقلاني للغضب هو –مثلاً– أن “يستخدم بطريقة مثمرة”. لذلك، على الرغم من أن شعور الغضب لم يتولد طواعية، استخدم بطريقة كانت كافية لتلبية أو تحقيق معيار العقلانية، وعليه، فإن عبارة التسويغ هذه يمكن عدّها عقلانية، إنه سبب منطقي!.
تجربة فكرية
تبيّن لنا أنه على الرغم من وجود فجوة بين العاطفة والعقل، لا يمكن بناء جسر يصل بينهما، واتضح ذلك أول مرة من خلال إظهار كيف يمكن أن يفهم العقل المشاعر ويستغلها –هذا عندما يجوز لنا الإشارة إلى المشاعر كجزء من عبارة تهدف إلى تفسير أو تسويغ رغبة بفعل أمر ما-، وبناءً على ذلك، لوحظ أنه على الرغم من كون المشاعر لا إرادية بعض الشيء، يمكننا التصرف تبعاً لها بطرق عقلانية، استناداً إلى معايير بصيرة الفرد.
وإليك، عزيزي القارئ، تمريناً يمكنك أن تجربه: خذ أي عاطفة تنبع من الجسد، على سبيل المثال، الجوع أو العطش أو الشهوة أو الغضب أو الخوف أو الفرح أو أي شعور آخر نحسّ به على مستوى الجسد، بما في ذلك الألم والملذات، واسأل نفسك إن كان بالإمكان تسويغ أو تفسير بعض الأفعال بناءً على ذلك الشعور. مثلاً، يمكنك أن تسوّغ فعلاً ما كالآتي “سأشرب آخر زجاجة عصير في الثلاجة لأنني ظمآن”، ثم اسأل نفسك أيضاً إن كان هذا التسويغ يتوافق مع معتقداتك والتزاماتك المختلفة، قد يكون أحد هذه المعايير هنا هو مبدأ “المشاركة مهمّة في العلاقات”، لم تفكر في هذه الحالة إن كان أيّ من أصدقائك يحب العصير، بالتالي لم يتمّ الوفاء بمبدأ “المشاركة مهمة في العلاقات” بشكل كافٍ، لكنك توصلت إلى استنتاج مفاده أن سبب تناولك آخر زجاجة عصير ليس عقلانياً، لأن التصرف بهذه الطريقة سيتعارض مع معتقداتك الأخرى، فتنادي –ربما على مضض إلى حدّ ما– سائلاً إن كان أي شخص آخر يرغب في مشاركة آخر زجاجة عصير معك.
إعداد: علاء العطار