صراع الروح والضمير
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
هو الحب يتدفق إلينا غديراً من الوداد، نشيداً يملأ ملكوتنا، يفتح نافذة صغيرة من الفرح تطل على قلوبنا، وقد يتعرض هذا الحب لإخفاقات وخيبات تجعلنا نظن أننا غادرنا بعضاً من أجزائنا، وأن لتلك الحواس الدافئة لدينا عمراً قد انتهى، ولا غيمة ستأتي لتدق أجراسها الاحتفالية في مسامنا، لكن ما حدث مع أبطال رواية “خلف ستائر فيينا” للكاتبة لوريس فرح يؤكد أن الحب يمثل حاملاً إنسانيا للحياة بكل وجوهها، فعندما يكون الحب وجهاً آخر للوطن نرى أنفسنا نحمل المدن في أعماقنا انتماء كما نحمل أسماءنا وهويتنا، وذاكرتنا التي نعيشها، فهل يبقى الحب دليلنا في ليل غربتنا يخفف وطأة الحزن ويعيد لأرواحنا لهفة الشوق والحنين؟
أن يكون الحب هو المعادل الموضوعي لحياتنا، أو الحامل لأوجاعنا وآمالنا وخيباتنا، فإنه بذلك يتجذر في وجداننا ليستيقظ عند أول غيمة تصادفه؛ وهذا ما تؤكد عليه الكاتبة عبر أحداث روايتها التي تسردها لنا على لسان أبطال الرواية، عبر قصة حب يعيشونها بكل تناقضاتها ومفارقاتها؛ فقد يضعنا القدر أمام خيارات لا ذنب لنا بوجودها، فهل من الممكن أن يحولنا الحب إلى جلادين ننتقم من أنفسنا، ونعيش بعيداً عن لحظات تخلدت في أرواحنا، ونمت في مسامنا، وتحت جلودنا؟ فهذه اللحظات هي شفاعتنا في إعادة الدفء لأرواحنا، وهنا توظف الكاتبة المكان توظيفاً كبيراً تنسج من خلاله أحداث روايتها، وتظهر الرابط الروحي ما بين المكان الذي تجري فيه أحداث روايتها والوطن الراسخ في أعماق الروح إذ يشكل الذاكرة الحية للإنسان.
تمتاز الرواية عن غيرها من الأجناس الأدبية أنها تتحرك فوق رقع متعددة، فسيحة جداً وإمكاناتها غير محدودة، تتسع للمتناقضات والتيارات المختلفة والعوالم الداخلية والخارجية والأهوال والهموم البشرية. وفي الرواية التي بين أيدينا اعتمدت الكاتبة على الحوارات الداخلية للشخصيات، وسبرت نوازع النفس البشرية بشفافية وعمق، مما أغنى هذه الشخصيات وقدمها كائنات من لحم ودم، فالكتابة في أحد جوانبها تعبير عن غبن حاصل للبشر في الحياة، والرواية تكشفه دون أن تعوّض عنه؛ والكاتبة عبر روايتها بما تتضمنه من أحداث تمثل عالماً مصغراً يعبّر عن عالم أكبر البشر فيه هم المسؤولون عن تحسين شروط حياتهم، فالرواية تساعد الناس على فهم واقعهم، وتمنحهم رؤية أوسع من خلال حيوات الآخرين.. إنها تجعلهم يرون حياتهم من الخارج والداخل، وتقدم لهم مبررات الاحتجاج والفعل!!
في قراءتنا لرواية “خلف ستائر فيينا”، نتوقف عند حالات مليئة بالهم الفردي والجماعي، آهات وزفرات صادقة، ومشاعر فياضة بالألم والحب معاً! تسكننا الصور والأفكار مزدحمة كعرائس نور بهية، ينمو الألم في داخلنا كشجرة ياسمين بيضاء تسافر في عروق المساءات الحالمة؛ ورغم كل شيء، نتأبط اغترابنا وحزننا ونمضي مفتشين عن مساحة من سلام نركن إليها، تورق اللغة في حضرة الرواية فيأسرنا التوق للحب والحياة رغم كل الأسى الذي يلحق بشخصياتها، توقظ الكاتبة فينا فتيل الحزن فتعطر الحروف والصفحات وأروقة الذاكرة والوجدان، رواية هي أشبه بلوحة كونية فريدة الألوان والخطوط تحملنا معها فوق حدود الغيم والتأملات والمدى!!
لقد استطاعت الأديبة لوريس فرح أن تصوغ عبر سردياتها بعض المفارقات الاجتماعية بين عالمين – هما دمشق وفيينا – بلغة رشيقة التقطت معها التفاصيل، فرسمت العلاقات الاجتماعية وما يظهر منها في لغة التواصل تتمّم رحلة السرد بما يخدم الغايات الدفينة التي تبوح بها الرواية تعبيراً عن روحية القص، وعشق الكلمة لماضي وحاضر ومستقبل شخوص الرواية، وتبقى شموع القلب في امتصاص وهج المعنى الغامض الذي يأخذ شكل النبض الروحي المتفاوت في دلالاته لديهم.
“خلف ستائر فيينا” رواية تمثل الواقع بكل وجوهه، تحمل الكثير من الشجن والأسى الموشى بأطياف الحب الذي يمثل الوجه الآخر للوطن، بل هو الوطن ذاته نعيش فيه ويعيش فينا؛ والخيبات لا تلغي الحب، بل هو الذي يحفزنا على تحملها والبدء من جديد، وقد كان للأسلوب الرشيق المشغول بلغة شفافة وقوية ومتميزة ومعبرة دوره الكبير في رسم نهاية هذه الرواية.. إنها رواية إنسانية بامتياز، تحاور الإنسان في زمن نحتاج فيه إلى الحوار والعقل والمشاعر معاً.