الشاعر الصغير في زمن الحرب
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
هل يولد الإنسان شاعراً بالفطرة؟ وهل للمورثات الجينية دورها مهما علت جذورها وجدودها؟ مهما تكن الإجابة، إلاّ أننا جميعاً نتفق أن الإنسان يولد نقياً، صافياً، له لغته الغامضة في شريط المورثات، وأتوقع أن مورثة الشعر – كما الفنون والعلوم الأخرى – تكون كامنة فينا، فإمّا أن يرويها الإنسان بالثقافة والمثابرة والمحاولات المتكررة، وإمّا أن يهملها لكنها مع الزمن تبرز بأشكال أخرى منها الإحساس الوجداني المتوزع بين محبة الفن والشعر والموسيقا والمسرح والرسم والقراءة وعمل الخير والرغبة في المعرفة والتعلم.
مواهب مختلفة الأعمار
المبصر للمشهد المتحرك في حلب يكتشف العديد من المواهب التي تحتاج لمزيد من الاهتمام، ومن مختلف الأعمار، فكم صادفت شابات ونساء ومنهن سيدات بيوت يكتبن ولا يقتربن من النشر أو الإعلان عن كتاباتهن؛ كما صادفت من هم فوق الخمسين والستين كتبوا القصائد ولم ينشروها؛ وأيضاً نصادف الكثير من الأطفال يمتلكون الموهبة، ومنهم الشاعر الصغير عصام محمود جنيد الذي عرّفني إليه الكاتب محمد جمعة حمادة في المركز الثقافي العربي بالعزيزية، في حلب.
أقلد عنترة بن شداد
عرّفني الطفل إلى نفسه بإصرار جميل، وتحدثنا قليلاً، وأخبرته بأني سأنتظره لحوار معه في مقر اتحاد الكتّاب العرب – فرع حلب.. وهكذا، زارنا مع أبيه محمود وأخيه جنيد، لأسأله: لماذا تحب الشعر؟ ومنذ متى تحفظه؟ فأجابني بطلاقة: أحب الشعر أقرأه وأحفظه، ومنذ كنت في الخامسة من عمري وأنا أكتب الشعر، وحتى الآن وأنا في الصف السابع، مدرسة معن بن زائدة، بالجلوم، كما أنني أحب أن أكون صحافياً.
وعندما سألته عن معرفته للبحور الشعرية كونه يكتب أقرب إلى تلك الموسيقا من النثر، أجاب: كلما قرأت قصيدة أحاول أن أكتب مثلها؛ وسماعياً، أجاري الوزن، أقلّد ما أقرأه، وأكتب، وأحفظ قصيدتي بعد قراءتها ثلاث مرات فقط.
لكل قصيدة حكاية
وعن أول قصيدة كتبها، قال: لن أنساها وعنوانها “أبا النور”، التي وجهها لأحد معلميه، وهو يستعجل في تعليمهم الإملاء والقواعد، وكانت لديه بعض الألفاظ غير المحببة، لذلك، كتب له:
“أبا النور فلا تعجل علينا
فإنا طلاب صغار يافعينا
لا ترانا شباباً، ونحن كالورد نابتينا
نعم فينا حميدٌ ولكن فينا الشياطينا”.
لم أستطع إخفاء ابتسامتي خاصة وأن الطفل عصام يلقيها بقوة وخطابة وثقة، ثم يبتسم. وأسأله: لكن هل ساعدك بعد ذلك معلمك، واكتشف أنك من الممكن أن تكون شاعراً؟ أجابني، لا، تمنيت لو أنه ساعدني، وتابع بسعادة: أكتب القصيدة الوطنية أيضاً، مثل “حلب أمّ الدنيا”، وأقول فيها:
“على ربوة وقفت شامخة
تروي قصصاً للأجيال
تروي قصة جدي وجدك”.
وأضاف: هذه القصيدة كرمني عليها د. دارم طبّاع وزير التربية، وأثناء التكريم، فاجأته بقصيدة ارتجالية، فكرمني مرة ثانية، وذلك في كل من المسابقتين “حلوة يا بلدي”، و”حلوة يا مدرستي”.
بين المعلقات والمقتطعات
الطفل الشاعر يحب المعلقات، لكنه لا يعرف الفرق بينها وبين المقتطعات التي أخبرني عن حبه لها أيضاً، لا سيما مقتطعات المضاض بن عمرو الجرهمي “وقائلة والدمع سكب مبادر”، وقصيدة عنترة بن شداد “أنا العبد الذي خبّرتَ عنه”.
لا أعرف المتنبي والحمداني
أمّا ماذا يعرف عن المتنبي وأبو فراس الحمداني وسيف الدولة وشعراء حلب؟ فأجابني بأنه لا يعرف شيئاً، وسألته: هل تزور الحديقة العامة بحلب؟ وهل تلاحظ الكثير من المنحوتات الفنية المنصوبة تمثل رموزنا الشعرية والأدبية مثل أبو فراس الحمداني وخليل هنداوي؟ فأجابني بعدم معرفته بذلك، ولم ينتبه، ولم يوجهه أحد لذلك.
وبينما يتأمل في كلامي، قلت له: هل تحب القراءة والمعرفة والثقافة؟ فرّد: بكل تأكيد!! وأنا من رواد منتدى أصدقاء المركز الثقافي العربي بالعزيزية. فأخبرته: قريباً سيكون لفرع حلب لاتحاد الكتّاب منتدى ثقافي أيضاً، وناد للأطفال، وآخر للشباب، وورشات عمل ودورات تدريبية للمواهب، ونأمل أن تكون أنت وجميع أطفال حلب وعائلاتهم معنا، كما أن لدينا في الاتحاد غرفة للمطالعة، فهز رأسه مبتسماً مؤكداً على المشاركة؛ وتابعت وأنا أهديه بعض الكتب: إذن، هل تعدني بمزيد من القراءة والاطلاع؟ فوعدني أن يبذل جهداً في هذا المجال، مضيفاً: أشكرك، فلم ينبهني أحد قبلك على هذه الأمور، وأعدك بضرورة القراءة في كافة المجالات.
رباعيات فيسبوكية
فاجأنا الطفل عصام جنيد أنه يكتب “الرباعيات”، فسألته: كيف؟ وما هي الرباعيات؟ ومن هو الشاعر المشهور بالرباعيات؟ ففوجئ هو أيضاً، وأجاب: لا أعرف، لكنني تعلّمت من “الفيسبوك” كتابة الرباعيات، وشاركت ما كتبته على رباعيات الفيسبوك.
الطفل في زمن الحرب
وعن معاناته وآلامه أثناء الحرب الإرهابية على سوريتنا الحبيبة، هو وأطفال جيله، أخبرنا بأن الآلام لا توصف، لكن الإرادة باستمرار تجعل الحياة أقوى، وحب الوطن أقوى، وفاجأني بإضافة: سيكون لي ديوان شعري بعنوان “الطفل في زمن الحرب”، أعبّر فيه عن الأحداث التي عشناها، وعن آلامنا ومعاناتنا وجراح هذا الوطن.
وفي الختام، اقترب جنيد جنيد، أخو عصام، ليقول: وأنا أحب أن أكون مذيعاً!! فدعوته لتجربة صغيرة عملية ليكون مذيعاً، ويجرب ذلك، وفي هذه الأثناء، تحادثت مع الأب محمود جنيد، ليخبرني كيف فوجئ بابنه عصام وهو يتلهف لقراءة الشعر، ويسمعه من خلال “النت”، ويحفظه، ويكتبه، متسائلاً: هل للوراثة علاقة بذلك؟ فجده وجد جده كانا شاعرين بالفطرة، أمّا أنا فلست بشاعر ولا أمه أيضاً.