مجلة البعث الأسبوعية

9% حجم اقتصاد المعرفة من الناتج المحلي الإجمالي.. مقترحات لتحسين هذا المؤشر من خلال الجامعات

البعث الأسبوعية – حسن النابلسي

أظهرت دراسة مقدمة لإحدى الجهات الأكاديمية عن “آفاق اقتصاد المعرفة في سورية” من إعداد الباحث الاقتصادي إيهاب اسمندر،  العديد من النقاط المهمة المرتبطة بهذا المصطلح، وأشارت الدراسة إلى أن “اقتصاد المعرفة هو الاقتصاد القائم على سيادة التكنولوجيا العالية” وما يتطلبه ذلك من توفر البيانات والمعلومات التي يبنى عليها الفعل الاقتصادي، وبنفس الوقت تكون متاحة لأوسع شريحة ممكنة من السكان، مع الإشارة إلى أن اقتصاد المعرفة -بحسب الدراسة- يعتمد على تشجيع الابتكار وتأمين بنية تحتية تقنية متطورة، كما يستند على الرقمنة، ويستهدف في تطلعه الإنتاجي سلع وخدمات ذات قيمة مضافة مرتفعة.

معيار

إن معيار قياس الاقتصاد المعرفي لأي دولة واعتبار اقتصادها اقتصاد معرفي بالفعل، يكون من خلال تفوق أعداد العمالة في الجانب التكنولوجي والرقمي، على عدد العمالة الأخرى، إضافة إلى مساهمة الجانب المعرفي الرقمي في الناتج المحلي الإجمالي، وهنا يبين اسمندر أنه إذا أخذنا حجم اقتصاد المعرفة في سورية، فهو يقدر حسب المجال المعبر عنه بالتكنولوجيا العالية وتقنية الاتصالات بحوالي 9% من الناتج المحلي الإجمالي (حسب المكتب المركزي للإحصاء لعام 2020)، وهو يقارب مستوى الدول النامية، بينما يصل هذا المؤشر إلى ما يتجاوز 60% في الدول المتقدمة (65% في سنغافورة مثلاً)، ما يعني –حسب اسمندر- أن سورية بعيدة حالياً عن اقتصاد المعرفة، وتحتاج إلى جهود كبيرة ومنظمة في هذا المجال.

إن تحسين مستوى المؤشر الموما إليه آنفاً يتطلب –وفق اسمندر- تشكيل فريق خبراء اقتصادي تقني لوضع إستراتيجية وطنية لاقتصاد المعرفة، وبناء اقتصاد وطني قائم على الابتكار والإبداع وتكنولوجيا المستقبل، إضافة إلى الاهتمام بطلاب الجامعات السورية المختلفة (العامة والخاصة) في هذا المجال، وإطلاق برامج إلكترونية لتقديم الخدمات الحكومية، وإدخال التكنولوجية العالية في جميع القطاعات الاقتصادية (الزراعية، الصناعية والخدمات)، إلى جانب الاعتماد على التكنولوجية العالية في توفير حلول لبعض المشكلات في سورية (تطوير حاضنات ومراكز للطباعة ثلاثية الأبعاد)، وإنتاج سلع مهمة (مثل الأطراف صناعية)، وتصدير جزء من الإنتاج إلى الخارج لتكون سورية مركز عالمي مهم في ذلك، وتأهيل عالي للعاملين في الدولة لاسيما المعنيين بالتحول إلى اقتصاد المعرفة على  متطلبات هذا الاقتصاد وشروطه.

خطوات

على اعتبار أن إدارة المعرفة في مؤسسات التعليم العالي هي الطريقة التي تمكّن الأفراد العاملين في المؤسسة التعليمية من تطوير مجموعة من الممارسات لجمع المعلومات ومشاركة ما يعرفونه مع الآخرين، ما ينتج عنه سلوكيات وتصرفات تؤدي إلى تحسين مستوى الخدمات والمنتجات التي تقدمها المؤسسة التعليمية.. يرى الدكتور زكوان قريط /كلية الاقتصاد – جامعة دمشق/ أن الجامعة منظمة جاذبة ومجال طبيعي لإدارة المعرفة، وذلك لأن مهنة المعلم تتطلب بشكل رئيسي المشاركة بالمعرفة وبالتالي يكون دور المعلم هو الموزع للمعرفة، ولاسيما أن الطلاب دائماً يسعون إلى اكتساب المعرفة الكفيلة بتطوير مهاراتهم وقدراتهم، الباحثين في أي مجال لا بد لهم من التشارك بالمعرفة سواء لإتمام أبحاثهم أو بعد نشرها لتصبح متاحة للمختصين، فضلاً عن أن إدارة المعرفة تضمن للجامعة وصول المعرفة الصحيحة إلى مستحقيها في الوقت المناسب لاتخاذ القرار المناسب.

وحدد قريط الخطوات العملية لإدارة المعرفة في مؤسسات التعليم العالي، والتي يتصدرها اكتشاف وفهم المعرفة التي تمتلكها المؤسسة، مشيراً إلى أنه يوجد في كل مؤسسة الكثير من المعرفة غير المستخدمة، أو أنها لم تستخدم بصورة صحيحة، إما لأنهم لم يحددوها، أو لا يتمكنون من الوصول إليها، أو لم يعرفوا قيمتها وكيفية استعمالها.

وثاني هذه الخطوات تحديد وتوقع المعرفة المطلوبة من خلال العمل على تطوير المهارات لمواجهة الحاجات المستقبلية، تليها جعل المعرفة جاهزة ومتوافرة بصورة أفضل، عبر تطوير قواعد البيانات والمعلومات والمعرفة لتمكين كوادرها من الوصول إليها وفق الحاجة، وتطوير الأنظمة التي تساعد المحتاجين إلى المعرفة من التعرف الوصول على الأشخاص الحاملين لتلك المعرفة.

وتتمثل الخطوة الرابعة بالتعلم من الخدمة، وهنا يبين قريط أن المؤسسات المتعلمة تراقب خبرتها لضمان التحسين المستمر، وتسعى ليكون أدائها الحالي أفضل من السابق، أي التعلم من أخطاء الماضي.

ومن خطوات إدارة المعرفة ضمان وضوح الرؤية لجميع العاملين، أي لا بد أن يكون للعمل غرض واضح من أجل فهم نوعية المعرفة التي يجب تعلمها لتحسين الأداء، إضافة إلى شراء المعرفة الخارجية عبر المصادر الخارجية للأنشطة غير الجوهرية، وذلك نظراً لعدم استطاعة المؤسسات تطوير كل المعرفة التي تحتاجها داخليا، وآخر هذه الخطوات -حسب قريط-      تصميم نظم معلومات جديدة، إذ تحتاج المؤسسات التعليمية إلى تطوير أنواع جديدة من نظم المعلومات تتلاءم مع طبيعة البرامج والاستخدامات المستحدثة.

فروقات

لعل تسليط الضوء على الفرق بين اقتصاد المعرفة والاقتصاد التقليدي، كفيل بتوضيح أهمية الأول ودوره الفاعل بالعملية التنموية، وهنا يبين اسمندر أن دراسته رصدت العديد من هذه الفروقات، أبرزها أن الاقتصاد الجديد لا يعاني من مشكلة الندرة حيث تتسم المنتجات المعرفية بالوفرة، مما ساعد على ذلك انتشار التقنيات الإنتاجية القادرة على خفض أسعار المنتجات المعرفية، أما في الاقتصاد التقليدي فدائماً تظهر مشكلة الندرة. كما أن الأصول المهمة في الاقتصاد الجديد هي (المعرفة الفنية، الإبداع، الذكاء، المعلومات ورأس المال البشري) في حين تمثل (الأرض، العمالة ورأس المال المادي) العوامل الأساسية لإنتاج وتوفير الثروة في الاقتصاد القديم، إضافة إلى أن الاقتصاد الجديد لا يتسم بتناقص الغلة مع الحجم مثلما هو الحال في الاقتصاد التقليدي، حيث تزداد العوائد مع زيادة كميات الإنتاج، كما لا يوجد حجم اقتصادي أمثل للمنشآت، لأنه في اقتصاد المعرفة يمكن إنتاج أي حجم وإلى ما لا نهاية، فضلاً عن أن النمو في اقتصاد المعرفة حلزوني لأعلى أي ليس خطياً كما هو الحال في الاقتصاد التقليدي، ناهيكم عن الأهمية النسبية للقطاعات الاقتصادية ترتفع المساهمة النسبية للصناعات المبنية على المعرفة أو تمكينها في اقتصاد المعرفة، وتتمثل في الغالب في الصناعات ذات التقنيات المتوسطة والرفيعة، مثل الخدمات المالية وخدمات الأعمال، إلى جانب أنه في اقتصاد المعرفة ترتبط السلعة بالعامل وليس المنشأة أي يمكن نقلها إلى خارج المنشأة عند انتقال العامل، ما يعني ارتفاع شأن الموهبة البشرية واستقلالها في عالم الأعمال، خلافاً للاقتصاد التقليدي، وفي هذا السياق يشير اسمندر إلى ظهور مقياس جديد للكفاءة الاقتصادية وهو مدى ملكية المنشأة للمعرفة، مقابل مقياس الإنتاجية المستخدم في الاقتصاد القديم.

وتطرق اسمندر في حديثه إلى الثورة الصناعية الرابعة التي ظهرت في أعقاب ثلاث ثورات صناعية شهدها العالم منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا، والتي تستند إلى ما حققته الثورة الصناعية الثالثة التي بدأت منذ منتصف القرن الماضي من إنجازات لاسيما فيما يتعلق بالتطور غير المسبوق لتقنيات الاتصال وتقنية المعلومات، مبيناً أنه كما استخدمت الثورة الصناعية الأولى الماء والبخار لتحريك الآلات، واستخدمت الثورة الصناعية الثانية الكهرباء من أجل الوصول إلى الإنتاج واسع النطاق، وركزت الثورة الصناعية الثالثة على استخدام الإلكترونيات وتقنية المعلومات لأتمتة ورقمنة الإنتاج، تتمحور الثورة الصناعية الرابعة حول مزج التقنيات التي تلغي الحدود الفاصلة بين كل ما هو فيزيائي ورقمي وبيولوجي في ظل بوتقة من التطورات التقنية المتسارعة التي سيمتد تأثيرها إلى عدد كبير من دول العالم في غضون السنوات العشر المقبلة.

وتتسم الثورة الصناعية الرابعة –حسب اسمندر- ببزوغ عدد من المحركات العلمية التي سوف تغير وجه العالم ومن بينها على الأخص (الذكاء الصناعي، الروبوتات، إنترنت الأشياء، علم الجينات الوراثية، الطباعة ثلاثية الأبعاد، الحاسوب الكمومي، تقنية النانو، البيوتكنولوجي، السيارات ذاتية القيادة، البيانات الضخمة، العملات الإفتراضية، تخزين الطاقة).

وأشار اسمندر إلى أن هذه الثورة تختلف عن الثورات السابقة لها في ثلاثة أبعاد رئيسة تتمثل في سرعة انتشار التقنيات المصاحبة لهذه الثورة (نمو أسي مقابل نمو خطي لسرعة انتشار التقنيات المرافق للثورات السابقة). واتساع نطاق وعمق تأثيراتها لتشمل كافة المجالات. وقدرتها على إحداث تغيير جذري في أنظمة الإنتاج والعلاقات الاقتصادية وطريقة سير المجتمعات.

أخيراً..

من المتوقع أن يكون لهذه الثورة تداعيات ملموسة على الأنظمة الاقتصادية حيث ستؤدي إلى إعادة هيكلة شاملة للبنيات الاقتصادية باتجاه التحول لقطاعات إنتاج المعرفة وقطاع التقنية عالية القيمة المضافة في مقابل تراجع لمساهمة قطاعات الإنتاج التقليدية مثل الزراعة والصناعة والتعدين في توليد الناتج. كما سيتبعها انخفاض كبير لأسعار المواد الخام والسلع الأساسية نظراً لتقنيات إنتاج بدائل للمواد الخام أقل كلفة وأكثر استدامة وملاءمة للاعتبارات البيئية. وسيترافق ذلك مع زيادات غير مسبوقة في مستويات الإنتاجية والتنافسية نتيجة تطور المهارات المعرفية للعمالة، وزيادة التراكم الرأسمالي والمعرفي، وانتشار أساليب الإنتاج الأكثر كفاءة واستدامة في إنتاج السلع والخدمات عالية التقنية والجودة والأكثر ملاءمة لأذواق وتفضيلات المستهلكين وأقل كلفة.