دراساتصحيفة البعث

الليبرالية الاقتصادية وأثرها على أنظمة التعليم

د. رحيم هادي الشمخي

كاتب عراقي

في كثيرٍ من الدول المتقدّمة، وتلك الساعية إلى التقدّم، لوحظ أن طبيعة الأنشطة الاقتصادية القائمة، ومدى اعتمادها على كثافة المعرفة، أصبحا المحرك الرئيسي لنمو التنمية، والدافع وراء بناء نظام تعليمي يرقى إلى مستوى المنافسة العالمية، ما يعني أن التباين بين أنظمة التعليم الحديثة والمتطورة في العالم المتقدّم وأنظمة التعليم في الدول العربية، لا يكمن فقط في نظام التعليم ذاته، بل في مقوّمات بناء اقتصاد المعرفة ومدى قوته، ويتضح بجلاء ضعف مقوّمات هذا الاقتصاد في الوطن العربي، حيث تُظهر مؤشراته مكانة متواضعة مقارنة بدول ومناطق أخرى في العالم.

وتفيد بيانات معهد اليونسكو للإحصاء، مثلاً، تصاعد معدل الإنفاق على البحث والتطوير في دول متقدمة ونامية عديدة، بينما ظلّ المعدل للوطن العربي دون تغيير من 2012 إلى عام 2019، وأن إنفاق الدول العربية يقلّ كثيراً عن الحدّ الأدنى الحرج اللازم لتحقيق أثر ملموس في تطوير الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وهو ما يعني تأخر أولوية هذا النشاط الحيوي في سلّم تفضيلات الحكومات العربية وغياب التعاون فيما بينهما، ومازالت الاقتصادات العربية تعتمد إلى حدّ كبير على إنتاج وتصدير النفط والمنتجات الزراعية والأولية، وهناك سيطرة للأنشطة غير الرسمية ذات الإنتاجية المنخفضة على كثير من هذه الاقتصادات، وتنعكس خصائص الاقتصاد هذه على التعليم في شكل ضعف نوعيته ومستوى خريجيه في المراحل المختلفة، ومحدودية الالتحاق بتخصّصات العلوم والتكنولوجيا والرياضيات، وغياب جامعات البحث القادرة على إنجاز البحث العلمي الأساسي والتطبيعي المتميّز، واكتشاف المعارف الجديدة، وتدريب أعداد كبيرة من الطلبة والطالبات للحصول على درجة الدكتوراه في مدى واسع من التخصّصات التي يمكن أن تنهض بعملية التنمية.

وينعكس التباين بين الدول المتقدمة والدول العربية أيضاً في كيفية تطبيق سياسات الليبرالية الجديدة في أنظمة التعليم العالي، فهناك مثلاً دول أوروبية عديدة لم تفرض رسوماً للدراسة في مؤسساتها التعليمية، ولا أدخلت رسوماً محدودة فقط، وظلّ الاعتماد الرئيسي على الإنفاق العام (مثل فرنسا ودول الشمال الأوروبي)، وحتى في حالة الدول التي اتبعت نهج فرض رسوم مرتفعة مثل المملكة المتحدة وأستراليا، نجدها اتخذت إجراءات تكميلية لتخفيف عبء هذه الرسوم على الطلبة، مثل ربط بدء سداد القرض بحصول الخريج على وظيفة وتحقيق هذه الوظيفة لحدّ أدنى معيّن من دخل الخريج، وهو الأمر الذي يصعب الأخذ به في كثير من الدول العربية، حيث فرص العمل محدودة، ومعدلات البطالة بين الشباب شديدة الارتفاع، علاوة على أن معظم الوظائف المتاحة للشباب تعاني تدنّي الدخل. كذلك فإن سياسة تقييد الإنفاق في كثير من الدول العربية طبقت، بينما ميزانيات معظم الجامعات العربية متدنية أصلاً، وكذلك مستويات دخول أسر الطلبة، ومن ثم اضطرت الجامعات إلى تقليص الإنفاق على متطلبات التعليم الأساسية، مثل المكتبات والمعامل والأجهزة العلمية، علاوة على ما تسبّب به هذا التقييد من ضعف الدوافع لدى أعضاء هيئة التدريس بسبب تراجع مستويات دخولهم الحقيقية، بينما تتنوّع مصادر دخل مؤسسات التعليم العالي في الدول المتقدمة والاقتصادات الصاعدة نتيجة ازدهار نشاط البحث العلمي في الجامعات، ومساهمة الدولة والقطاع الخاص في تمويله، فإن نشاط البحث العلمي في الجامعات العربية لا يمارس إلا في أضيق الحدود، ولا يحقّق عائداً يُذكر للجامعات، يُضاف إلى ذلك أن نمو نشاط تصدير خدمات التعليم في مؤسسات التعليم العالي في الدول المتقدمة يساهم بشكل فعّال في تنمية مواردها المالية وتعويض ولو جزئي لقصور الإنفاق العام.

وقد انتقل فكر الليبرالية الجديدة، متخذاً شكل نمط موحّد للإدارة الاقتصادية من خلال مؤسسات العولمة، وبالتحديد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، إلى الدول النامية، وكبداية للتحول نحو هذا المنهج المتمحور حول اقتصاد السوق، طُبّق ما عرف ببرنامج التثبيت والتكيف الهيكلي في العديد من الدول العربية والنامية عموماً، وصاحبَ هذا التطبيق أو تلته مجموعة من اتفاقات تحرير التجارة تقودها وتشرف عليها منظمة التجارة العالمية، والأهداف التي وضعتها هذه المؤسسات وروّجت لها، قادت التحولات، واستسلم لها واضعو السياسات والسياسيون في الوطن العربي، واعتنق فكرها جانب لا بأس به من الاقتصاديين والباحثين العرب، وتعتبر مؤسّسات العولمة هذا النمط الموحّد للإدارة الاقتصادية هو البديل الوحيد والممكن لتحقيق إدارة اقتصادية كفء.