صباح فخري إيقاعات موثقة وبصمات معتقة
ولد أسطورة الغناء العربي والشرقي صباح الدين أبو قوس في حلب في الثاني من أيار عام 1933، ونشأ وترعرع في منزل كبير في حارة الأعجام داخل حي القصيلة بإحدى مناطق حلب القديمة، وكانت النسوة تجتمعن مساءً في المنزل الكبير لتمضية الوقت بالمزاح والتحادث، بينما كان صباح فخري الطفل يتسلق شجرة ويدندن ويغني بعض الأشعار، فانتبهت له سيدة تمتلك صوتاً جميلاً تدعى “خانوم”، واقترحت عليه تعليمه بعض المواويل، فشدته إلى هذا العالم، وأصبح يجالسها باستمرار، وعلمته غناء أول موال في حياته وهو: “غرد يا بلبل وسلّي الناس بتغريدك.. الله يتمم عليك الجمال يا حلو ويزيدك”.
حافظاً للقرآن الكريم
أحيطت بيئة الفنان صباح فخري بمجموعة من قارئي القرآن وشيوخ الطرب والمنشدين، وبعد بلوغه سن التعليم التحق بالمدرسة القرآنية في حلب وتعلم مبادئ اللغة العربية وعلوم البيان، وحفظ القرآن الكريم وأصول تجويده بالقراءات السبع، ما ساعده على الغناء وإتقان مخارج الألفاظ السليمة للحروف، وبدأ بتلاوة ما تيّسر من القرآن الكريم في جوامع حلب وحلقات النقشبندية، وكانت أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقا، ومع دخوله مرحلة الدراسة الإعدادية، شجعته إدارة المدرسة على الغناء ضمن حفلاتها، انتقل بعدها لتعلم الموسيقا والموشحات والإيقاعات والعزف على العود في معهدين متخصصين في مدينتي حلب ودمشق.
خطواته الأولى
في بداية شبابه عمل صباح فخري موظفاً في مديرية أوقاف حلب ومؤذناً في جامع الروضة، وصادف أن زار حلب حينذاك عازف الكمان الشهير سامي الشوا، فسمع غناءه وأعجب بصوته كثيراً، واتفق معه أن يصطحبه إلى مصر لصقل موهبته الفنية، وعندما كان يتحضر للسفر من دمشق إلى القاهرة بصحبة الشوا، اكتشف الموسيقي الراحل فخري البارودي الذي كان يستعد وقتها لإطلاق الإذاعة السورية عام 1947 موهبته، فرفض بشكل قاطع سفره وأصر على بقائه في دمشق لضمه إلى فريق الإذاعة، وبالفعل شهد صباح فخري تأسيس وإطلاق الإذاعة السورية وغنى فيها أولى أغنياته عام 1948، فاشتهر الفنان صباح فخري بصوته العذب والرخيم وغنائه الطرب الأصيل وسجل أغانٍ كلاسيكية وأخرى محدثة التلحين من قبل أساتذة الموسيقا الكبار أمثال بكري الكردي، نديم الدرويش، مجدي العقيلي، وعزيز غنام، ومنذ ذاك الوقت عرف الفنان صباح الدين أبو قوس، بصباح فخري نسبة إلى اسم الموسيقي فخري البارودي الذي رعى موهبته وقدمه للمستمعين.
صوته مدار العالم
تابع الفنان صباح فخري دراسة الغناء والموسيقى في معهد حلب للموسيقى، ثم في معهد دمشق، وبعدها في المعهد العالي للموسيقى الشرقية الذي تخرج منه عام 1948 بدمشق، وأسس فرقة سلاطين الطرب، ومعهد صباح فخري للموسيقا بحلب، وغنى مئات الأغاني منفرداً وبصحبة مشاهير جيله، كما لحّن صباح فخري وغنى عدداً من القصائد العربية، حيث غنى لأبي الطيب المتنبي، أبو فراس الحمَداني، مسكين الدارمي، وابن الفارض، والروّاس، ابن زيدون، ابن زهر الأندلسي، ولسان الدين الخطيب.
كما لحّن وغنى لشعراء معاصرين مثل: فؤاد اليازجي، أنطوان شعراوي، د.جلال الدهان، ود.عبد العزيز محي الدين خوجة، عبد الباسط الصوفي، عبد الرحيم محمود، فيض الله الغادري، عبد الكريم الحيدري وغيرهم.
اعتلى صباح فخري مسارح أكبر وأشهر المهرجانات العربية والدولية منها في سورية: تدمر، الأغنية السورية، المحبّة وغيرها، الأردن: جرش، شبيب، الفحيص، لبنان: بيت الدين، عنجر، عاليه، العراق: مهرجان الربيع في الموصل عام 1979 ولعدّة سنوات، تونس: قرطاج، سوسه، حلق الواد، الحمامات، صفاقص، القيروان، المغرب: فاس، مصر: مهرجان الموسيقا العربية، فرنسا: مهرجان الموسيقا الشرقية في نانتير، قطر: مهرجان الثقافة، الكويت: مهرجان الڤرين الثقافي.
غرس صباح فخري صوته في أنحاء العالم، تماماً، كما التراث العربي السوري الشرقي، وجاب الأماكن جميعها، ليترك بصمته في كل مكان تحلق وترفرف وتغني إلى ما لا نهاية، إضافة إلى أنه غنى في العاصمة الفنزويلية كراكاس لمدة 10 ساعات متواصلة عام 1968، ليدخل موسوعة غينيس كأول مطرب عربي ووحيد حتى الآن في هذه الموسوعة.
من الأماكن التي غنّى فيها نذكر قاعة نوبل للسلام في السويد، وقاعة بيتهوفن في بون بألمانيا، أمّا في باريس فأقام العديد من الحفلات في كل من قاعة قصر المؤتمرات، ومسرح العالم العربي، ومسرح الأماندييه في نانتي.
كما قام بجولة فنية ثقافية في بريطانيا تضمنت حفلات غنائية ومحاضرات عن الموسيقى والآلات العربية في كل من لندن، يورك، كاردف، برمينيغهام، شيستر فيلد، مانشستر، ديربي شاير، كوفينتوري.
نقيباً للفنانين وسفيراً فوق العادة
شغل الفنان الراحل صباح فخري عدة مناصب منها نقيب الفنانين السوريين لأكثر من مرة، ونائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، وسفير الغناء العربي، وعضو مجلس الشعب السوري عام 1998 ممثلاً عن الفنانين، عضو في اللجنة العليا لمهرجان المحبة-اللاذقية، وعضو في اللجنة العليا لمهرجان الأغنية السورية ومديراً عاماً للمهرجان في دورتيه الأولى والثامنة.
كرمه السيد الرئيس بشار الأسد كسفير فوق العادة للغناء العربي بتقليده وسام الاستحقاق السوري عام 2007، كما تقلد وسام تونس الثقافي عام 1975، ووسام التكريم من السلطان قابوس عام 2000.
نال الميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية – دمشق عام 1978، وجائزة الغناء العربي من دولة الإمارات العربية المتحدة، وقلده محافظ مدينة لاس فيغاس في ولاية نيفادا شهادة تقديرية ومنحه مفتاح المدينة تقديراً لفنه وجهوده المبذولة لإغناء الحركة الفنية التراثية العربية، وقُلد مفتاح مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان ومفتاح مدينة ميامي في ولاية فلوريدا مع شهادة تقديرية، وأقامت له جامعة U.C.L.A حفل تكريم في قاعة رويس وقدمت له شهادات التقدير لأنه حمل لواء إحياء التراث الغنائي العربي الأصيل.
كرّمته وزارة السياحة المصرية بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية، وكرّمه مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في مصر، وقدّم له رئيس جمعية فاس سايس شهادة تقدير وشكر، والعضوية الفخرية لمجلس إدارة المهرجان إجلالاً لفنه وعرفاناً بجهوده للحفاظ على التراث الموسيقي الغنائي العربي، كما قدّم له محافظ مدينة فاس مفتاح المدينة مع شهادة تقدير وشكر والعضوية الفخرية لمجلس المدينة وهي المرة الأولى التي يمنح فيها مفتاح المدينة لفنان عربي أو أجنبي 2004.
تراث عالمي
قدمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الجائزة التقديرية مع درع المنظمة ووثيقة الأسباب الموجبة لمنح الجائزة لحفاظه على الموسيقى العربية ونشرها، إضافة للعديد من الجوائز والأوسمة والتقدير والتكريم في العالم، وآخرها اعتراف العالم بالقدود الحلبية كتراث إنساني عالمي معنوي لا مادي في منظمة اليونسكو.
نعته الأمانة السورية للتنمية
وكانت الأمانة السورية للتنمية قد نعت الفنان الكبير صباح فخري وقالت في كلمة لها: كانت الأغاني تصلح يوماً ليسكنها المتعبون والعاشقون وذوّاقو الفن.. فقد ورّث صباح فخري قصوراً على الأرض ومثلها على الغيوم، والعبور بينها سُلّمٌ سحريٌّ من القدود صعوداً ونزولاً من وإلى جنانٍ مجازيّة يسلم فيها صوته على أهل الأندلس ويهمي مغازلاً القدّ المياس، مختزناً طبقاتٍ ثريّة يستطيع المطروبون الجلوس بينها والغرق في أحلام هندَسها الفخريُّ صباح نغمةً نغمة، وإيقاعاً إيقاعاً، وحين يغيّب الموت من لا تتوقف حياتهم وعطاءاتهم بانتقالهم إلى جوار ربهم، يكون الفقيد أيقونةً من تاريخ الفن السوري العريق وصباحاً من صباحات فخرنا.
3/10/2018 يومُ في ذاكرة الأمانة السورية للتنمية، حين أثريت عملنا بترشيح عنصر القدود الحلبية على قوائم التراث الإنساني في اليونسكو، بما قدمته لنا من دعمٍ معنوي وعلمي وشاركتنا جزءاً من مسيرتك الفنية الطويلة التي نشرت الطرب الحلبي الأصيل عالمياً.
اليوم ونحن نرثيك بهذه الكلمات نستذكر وصفك للقدود الحلبية بأنها “بوكيه من الورد من كل روضٍ زهرة”، وعلى الرغم من أن المليحة قد ارتدت خمارها الأسود إلا أننا نعدك أن يكون عام رحيلك محطةً في تاريخ القدود الحلبية وهويتها السورية عالمياً، من خلال تقديم القدود الحلبية لتسجيلها كجزء من التراث الإنساني العالمي في اليونسكو 2021.