اليمين المتطرف في أوروبا يسقط مكنونات المفهوم النظري في الواقع العملي
البعث الأسبوعية- محمد نادر العمري
تعرف الجماعات والأحزاب اليمينية المتطرفة بشكل عام بأنها تلك التي تسعى إلى الحفاظ على سمات وخصائص تتميز بها من مجموعة من الأعراف والتقاليد الدينية والاجتماعية وتنمية الروح القومية الخاصة بالقطر وحمايتها من المكنونات الأخرى أو الدخيلة البشرية منها أو الثقافية أو المالية وغيرها من المجالات الأخرى.
وهو ما ينطبق على اليمين المتطرف في أوروبا في حال إسقاط مكنونات هذا المفهوم النظري في الواقع العملي, حيث وجد هذا التيار_ رغم جذوره القديمة_ في وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة مع بداية العام 2017, بمنزلة الفرصة التاريخية التي لطالما انتظرته هذه الجماعات -اليمين المتطرف في أوروبا- لكي تعبر عن نفسها وتحاول فرض رؤيتها وشرعنة وجودها والإعلان عن شعاراتها وترجمتها في الواقع العملي ضمن مسعاها لتكريس أيديولوجياتها القومية والشعبوية والفاشية على الملأ, مستغلة مطالب المملكة البريطانية حينها بالخروج عن الاتحاد الأوروبي ووصول “بوريس جونسون” فيما بعد لرئاسة السلطة التنفيذية هناك.
وللتأكيد على وجود والانتشار السريع لهذا التيار الذي طالما كان غير مرغوب فيه داخل الحياة السياسية والسلطة في القارة العجوز, يمكن الاستعانة والاستدلال بما قالته الفيلسوفة البلجيكية شانتال موف: “يعد الاتحاد الأوروبي نموذجاً بديعاً لتحويل أعداء الأمس خصوماً سياسيين” فهذا الوصف ينطبق على الوضع السائد والصراع الذي كان هدفه مسعى الأحزاب الكلاسيكية في أوروبا وبصورة خاصة اليسار والوسط واليمين المعتدل, في الحفاظ على هيمنتهم على السلطة التي تكرست منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبخاصة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا, ومنع اليمين المتطرف بما يحمله من فكر يرفض القومية ويدعو للوطنية من الوصول للسلطة والإطاحة بما حققه الأوروبيون.
غير أن المفارقة أنه وبسبب تراجع الأهمية الإيديولوجية وانخفاض وتيرة الصراع لأحزاب اليمين واليسار التقليدين وفقدان الطابع الإيديولوجي لهذه الفواعل الحزبية وانخفاض شعبيتهم وتراجع تأثيرهم وانتشار العولمة وأطر التواصل الفكري والمعرفي والعلمي, وانتشار السلاح, وتعدد القضايا الإشكالية التي شكلت عصا قوية بالنسبة لليمين لقلب الرأي العام على خصومه وقلب الوضع لصالحه وتغير مجريات الأمور في واقع شهدته معظم الدول الأوربية وبخاصة هولندا التي بدأت معالم ميزان القوى يتغير لصالح اليمين منذ عام 2012, وإيطاليا التي اكتسحت بها أحزاب اليمين المتمثلة بأحزاب ” الرابطة, وإخوان إيطاليا” المشهد الانتخابي والسياسي, وهو الواقع الذي شهدته فرنسا وإسبانيا, وحتى اليونان.
فعلى الصعيد الاقتصادي، لا يتبنى اليمينيون المتطرفون النظام الليبرالي السائد، بل هم يتبنون ويرفعون مفهوم ما يسمونه “بدولة الرفاه” والتي تتجلى صورها وشكلها الواقعي والتطبيقي فيما يطبق في أوروبا الغربية والشمالية، ويعني تدخّل الدولة من أجل تحقيق نظام تأمينات اجتماعية جيد للعمال والعاطلين عن العمل والمتقاعدين، ودعم القطاع الصحي وقطاع التعليم…الخ.
فبعد الأزمة الاقتصادية التي اكتسحت العالم عام 2008 ومن خلال هذه النقطة استطاعَ اليمين المتطرف دغدغة مشاعر واهتمامات العمال والطبقة المتوسطة في تلبية متطلباتهم، إذ بات اليمين في هذه الشعارات يحارب اليسار الأوروبي بسلاحه التقليدي الذي تأسس عليه منذ نهاية العقد الثامن عشر عندما أصدر ماركس وتلميذه انغلس عام 1848 البيان الاشتراكي العالمي تحت شعار “ياعمال العالم اتحدو” . وهذه الجزئية الاقتصادية هي ذاتها وظفها اليمين للحد من قدوم المهاجرين بالربط بين تراجع وضع هذه الطبقات في حال السماح للمهاجرين الدخول لأوروبا, مروجاً لفكرة إن القادمين نتيجة حاجتهم للعمل فإنهم سيقدمون تنازلات في جزء من حقوقهم وبخاصة من ناحية الأجور والتأمينات مما سيدفع أصحاب رؤوس الأموال لتفضيلهم بما يحقق للرأسماليين هؤلاء مطامح ربحية أكثر .
وبحسب تقرير أجرته شبكة “زد دي إف” العامة منتصف عام 2021, أكد أنه لم تبلغ نسبة أحزاب أقصى اليمين في البرلمانات الأوروبية بهذا الشكل منذ بدء الحرب العالمية الثانية, حيث شهدت تلك الحقبة ونتيجة الأزمة الاقتصادية 1929 والخلافات العرقية في بعض الدول صعود النازية والفاشية ووصولها للسلطة بشكل سريع, في وضع مشابه لما حصل بعد الأزمة 2008, حيث يمكن تلمس هذا النمو المطرد في تركيبة البرلمانات الخاصة بكل دولة وبالبرلمان الأوروبي ذاته, وحصول نوع من تحالف مابين أحزاب التيار في صورة عكست سعيها للوصول للسلطة وتطبيق توجهاتها, حيث تتوزع أغلب أحزاب اليمين المتطرف على ثلاثة تحالفات وهي:
- تحالف أوروبا من أجل الشعوب والتحرر.
- تحالف أوروبا للحرية والديمقراطية المباشرة.
- تحالف المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين وهو الأكبر 71 مقعداً.
ويبلغ عدد مقاعد الأحزاب اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي 165 مقعداً من أصل 751.
بعد الأزمة المالية وما نجم عنها بدأت أحزاب اليمين تستغل تداعياتها كالبطالة وتفاقم معدلات التضخم لتعزيز شعبيتها مستعينة بترويج هذه الأفكار من خلال تطور وسائل الاتصال المتاحة، وبعد ازدياد نسبة المهاجرين لأوروبا بعد عام 2010, استغل اليمين قضية اللاجئين لتوجيه الاتهام للحكومات بالتخلي عن الهوية الأوروبية، وحذّرت من زوال ما سمته “الثقافة الأوروبية” أو “الغربية”، وكذلك من “أسلمة أوروبا”. وقد نجم عن هذا الخطاب انعكاس طردي وملحوظ لنمو ظاهرة إرهاب الأجانب، وعداء المهاجرين، و الإسلاموفوبيا الذي حل محل معاداة السامية من منظور المركز الأوروبي.
ففي عدة دراسات أجرتها مراكز البحوث الأكاديمية و البحثية المعنية بالشؤون السياسية والاجتماعية نلحظ ما يلي:
أولاً: من المعروف إن معدلات الولادة في أوروبا هي الأقل على المستوى الدولي نتيجة العزوف عن الزواج أو بسبب الحفاظ على الحياة الرفاهية للعائلة أو نتيجة التفكك السريع للزواج, في حين إن المهاجرين هم في الغالب من العناصر الشابة الذكورية ولديهم غريزة انشاء العائلة وتجذير وجودهم مما يعني جلبهم لزوجاتهم أو زواجهم من فتيات أوروبيات مما يغير الواقع الديموغرافي ويؤثر في تركيبة المجتمعات كما هو حال ضواحي باريس التي يقطنها لاجئين أفارقة.
ثانياً: هذا التزايد المتسارع أفقياً للمهاجرين والاعتراف بهم يعني في المقابل الاعتراف بما يتبنوه من معتقدات وأفكار وثقافات, مما يؤدي خلال أعوام قليلة لتحويلها جزء من الثقافة المتكرسة في المجتمعات الأوروبية, ما قد يفضي في النهاية لتغير الواقع الثقافي.
هاتين النقطتين استغلها اليمين لاستمالة التأييد لصالحه خاصة أن هناك في أوروبا كما في الولايات المتحدة الأمريكية فئات بشرية ومنظمات عنصرية ترتكز في إدعاءاتها على تمايز جوهري في عرقها ونسلها وشكلها, مثل منظمة “أتاكا” في ألمانيا التي تحولت لحزب عنصري الذي دعا الناس إلى تسليح أنفسهم ضد المهاجرين في وسط أوروبا وغيرهما الكثير.
وما ساهم في تعزيز هذا الخطاب، حصول عدد من الجرائم الإرهابية في عدد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وهولندا. لكن خطورة هذا الخطاب اليميني لا تكمن هنا فحسب، بل تكمن في استدعائه لأسطورة تفوق العرق الأبيض بمعنى أنه شرع لنفسه العنف على خطى الفاشية أو نظرية العرق الآري وإدعاء “شعب الله المختار”. وهو ما أدى لولادة جيل ثالث من اليمين الذي تفرع عنه اليمين المتطرف الذي بدوره مهد الطريق لليمن الأكثر تطرفاً وهو الجيل الذي يتميز بدعوة التدخل القسري عبر استخدام العنف- وربما السلاح- من أجل فرض الأعراف والقيم الاجتماعية.