خريف الأحزاب الجديدة في أوروبا
محمد نادر العمري
شهدت الحالة الحزبية والسياسية في أوروبا نوعاً مما يمكن وصفه الخروج عن السياق التقليدي لنشوء الأحزاب ونموها وتمدّدها، فمن المعترف به أن هناك ثلاثة أنواع من الأحزاب من حيث النشأة، وتدور هذه الأحزاب إما عن انشقاقات من أحزاب عريقة وتعتبر هي الأم، أو نتيجة ائتلاف أو توحد بين حزبين أو ثلاثة صغار لتوسيع قاعدتهم وتوحيد جهودهم، أو أحزاب تنشأ جديدة بشكل يتفق على تأسيسها من قبل مجموعة تكون لديهم برامج سياسية أو اقتصادية أو حتى اجتماعية، وقد تكون بيئية وربما غيرها الكثير من الدوافع.
ولكن هنا تستوقفنا الإشارة لأحد الأحزاب التي استفادت من وسائل العولمة وبشكل خاص ومحدّد الانترنت ليخلق فضاء له، وهو حزب “الخمس نجوم” في إيطاليا، الذي يعود الفضل لتأسيسه وإطلاقته للسياسي والممثل الكوميدي جوزيبي غريللو، والمستشار في استراتيجيات التقانة العنكبوتية جيان روبرتو كالدازجيو اللذين أسّسا عام 2005 أول منصة للنقاش والحوار بين الإيطاليين عن الأمور السياسية، وسمحا بانتقاد مواقف النخبة السياسية وعمل الأحزاب والإشارة لمكامن الفساد وطبيعته في عمل السياسيين والأحزاب السياسية، حتى إن هذه المنصة وفي وقت لا يزيد عن ثلاثة أشهر باتت تشكل وسيلة لتعبئة الرأي العام الغاضب من سلوك السياسيين.
وفي تشرين الثاني 2009 تحوّلت منصة “الخمس نجوم” من واقعها الافتراضي المتمثل بغرف دردشة ومنصات حوار خلف شاشات التقانة “كمبيوترات وموبايلات” لكيان حركي واقع، وعقد اجتماع حواري للفاعلين في هذه المنصة ليتفقوا في نهاية اجتماعهم هذا على التحول إلى حركة مناوئة للفساد الذي كان مستشرياً في إيطاليا بغطاء ودعم من معظم الشخصيات الوزارية والحزبية المرموقة وعلى رأسهم سيلفو برلسكوني.
وعلى الرغم من أن مؤسّسي “خمس نجوم” ومناصريها يتمسكون برفضهم تصنيفها حزباً سياسياً ولا ينسبوها لأيّ من التيارات اليسارية أو اليمنية التقليدية، إلا أن الحركة استطاعت أن تجد موطئ قدم لها في الحياة السياسية الحزبية بسرعة قصوى ودون عناء المنافسة والصراع الشرس مع الأحزاب الكلاسيكية ذات الجذور القديمة، فمن خلال ما رفعته من شعار لمحاسبة المسؤولين ورموز الفساد وطرحها لقضايا وبرامج تتناول مساعدة شريحة الفقراء وتمسكها بالضغط على الحكومة لدعم الشركات التجارية الصغيرة والمتوسطة ومناداتها لخفض رواتب السياسيين، تمكّنت الحركة من زيادة شريحة مؤيديها ومناصريها، خاصة وأن ظهورها الواقعي “2009” تزامن مع انتشار ما سُمّي بـ”الربيع السياسي الأوروبي” الذي جاء في أعقاب أزمة الرهن العقاري 2008 والتي كان لها وقعها في اليونان وهولندا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا.
وهذا النمو الشعبي لـ”الخمس نجوم” مكّنها وفي سابقة هي الأولى من نوعها من الفوز بانتخابات بلدية روما التي أجريت في تموز 2016، وهو ما مهّد الطريق أمامها لاكتساح الانتخابات التشريعية في 2018، لتشكل بذلك سابقة وظاهرة حزبية وسياسية في أوروبا، سواء من حيث طريقة النشأة أو السرعة في الوجود، بل والأكثر سرعة في الوصول للسلطة، بالرغم من أنها لا تتضمن أي أفكار إيديولوجية ولا تمتلك أي خلفية فكرية، بل يمكن وصفها بأنها مزيج من التيارات الشعبوية والبيئية كونها تطالب بالدفاع عن القضايا البيئية إلى جانب مطالبها بدعم الديمقراطية ومحاربة كافة أشكال الفساد.
هذه الميزات لن تقف عند هذا الحدّ، بل إن كسرها للأرقام القياسية طال هزائمها التي مُنيت بها في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها إيطاليا منذ شهرين، حيث تراجع ما نسبته 19% مقابل عودة اليسار، واتهام قادتها من قبل منافسيهم بالفساد، وهي اليوم مهدّدة بالانقسامات والتشرذم وفق تسريبات من داخل الحزب، لتغدو بذلك “خمس نجوم” التي استمدت اسمها من قضايا تبنّتها ودافعت عنها، كورق الشجر الذي ينضح جمالاً وجاذبية ورونقاً في الربيع وسرعان ما يتساقط في الخريف.