العالم إلى ثلاثي أقطاب ومصلحة الجميع بوجود خوارزميات مستقرة للتفاعل
البعث الأسبوعية- هيفاء علي
لم يعد الفشل في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية يتعلق بتوجهات النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، ذلك أن المحافظين الجدد وليبراليو بايدن المتطرفين، يودون العودة إلى النموذج أحادي القطب الذي ساد في التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنهم ببساطة لا يستطيعون ذلك، فقد أصبحت الصين وروسيا، منذ فترة زمنية كيانات جيوسياسية وحضارية ذات سيادة كبيرة، بحيث لم يعد من الممكن إنكارها.
بالطبع، حاول الليبراليون الذين يحاربون ترامب اتهامه بأنه الشخص الذي ساهم – بشكل متعمد بالفعل- في استقلال روسيا بوتين، وكان هذا أحد الموضوعات الرئيسية في الانتخابات الأمريكية، لكن من الواضح الآن أن هذه كانت حيلة سياسية خالصة، ولم يكن الأمر يتعلق بتعاطف ترامب مع بوتين أو تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية، وإنما بكل بساطة يعني أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على حكم العالم بمفردها. وبحسب محللين، فقد تم الوصول إلى الحد الاستراتيجي للأحادية القطبية، ولم يعد هناك المزيد من الموارد للحفاظ عليها وتقويتها، وبالتالي انتقل العالم إلى عالم ثلاثي الأقطاب وهذه حقيقة راسخة.
هذا الأمر يقود إلى القول بأن هناك ثلاثة مراكز لصنع القرار ذات سيادة كاملة في هذا العالم، وهي:
- الولايات المتحدة التي لم تعد تمثل الغرب بأكمله، بل تمثل المحور الأنغلو سكسوني، ومن هنا تم إطلاق تحالفات “أوكوس” و”كواد” بالإضافة إلى حلفائها الإقليميين.
- روسيا التي تعمل على تعزيز موقعها على الساحة الدولية، في محاولة لإيجاد نقاط جديدة للتطبيق في كل من فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي وفي مناطق أخرى.
- الصين التي تتحمل بنجاح وطأة المواجهة الاقتصادية والعسكرية الإستراتيجية المتزايدة مع الأنغلو- ساكسون الذين ينخرطون بجدية في احتواء الصين الإقليمي في جنوب شرق آسيا.
وبين مراكز القوة هذه تتأرجح:
- الاتحاد الأوروبي الذي وصل إلى حافة كارثة طاقة بسبب السياسات الفاشلة لواشنطن بعد أن وجد نفسه مستبعد عملياً من الكتلة الأنغلو- ساكسونية.
- تركيا وإيران وباكستان التي تعمل بشكل منهجي على تعزيز قدراتها الإقليمية.
- اليابان والهند اللتان تسعيان إلى تقوية موقفهما من خلال استخدام الجمود الواقعي بين الولايات المتحدة والصين، ووحدها تواصل الهند، بشكل منطقي تماماً ، الحفاظ على شراكة إستراتيجية مع روسيا
- دول الشرق الأوسط والمغرب العربي التي انفصلت عن الولايات المتحدة وتحاول الآن حل النزاعات المحلية دون اللجوء إلى واشنطن.
- الأنظمة الأفريقية التي ترفض بشكل متزايد الاستعمار الأوروبي، وعلى نطاق أوسع، الاستعمار الجديد الغربي المتجسد بطريقة حيوية للغاية من خلال الموجة الجديدة من القومية الأفريقية المعادية لأوروبا.
- دول أمريكا اللاتينية التي تخلت عنها الولايات المتحدة فعلياً وتسعى إلى مكان جديد في النظام العالمي على غرار الجنوب العالمي.
- لاعبو جنوب آسيا الناشئون مثل إندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية… إلخ.
وهكذا، بين الركائز الثلاث تبدأ حركة من الأقطاب الثانوية أقل رسوخاً قليلاً ولا تزال غير مكتملة، ومع ذلك فإن بعضها – ولا سيما الهند وبعض دول أمريكا اللاتينية – لديها إمكانات عالية جداً وستصل قريباً إلى بطولات الدوري الكبرى. بمعنى أن العالم ثلاثي الأقطاب، سيكون غداً عالم متعدد الأقطاب بالمعنى الكامل.
وبالتالي ستكون بعض الجوانب التكنولوجية للحضارة – نظام الاتصالات، ومجال الطاقة، ونماذج الشبكات الرقمية وتطوير الاقتصاد الافتراضي – مشتركة بين جميع الأقطاب كبيرها وصغيرها، حتى لو كان فقط من أجل وقت قصير ما من شأنه تحقيق الحد الأدنى من توحيد العلاقات بين القطبين، وتبرير الخوارزميات المشتركة. ومن الطبيعي أن يؤسس هذا نموذجاً محدداً على المستوى العملي، ومقبولاً من الجميع يتكون من بروتوكولات وقواعد تعكس الشروط الجديدة. وفي مثل هذه الحالة، لن يكون لأحد الحق الحصري في الإصرار على أي شيء، لأن قوة أحدهما لن تكون محدودة إلا بقوة الآخر، والباقي هو مسألة تفاوض.
إذن من مصلحة الجميع وجود خوارزميات مستقرة للتفاعل الدولي، لكن القواعد ستتغير باستمرار حيث يسعى كل قطب إلى تغيير الوضع لصالحه. ولكن من ناحية أخرى، سيكون لكل قطب مصلحة في تعزيز هويته الحضارية، وهنا سيكون الوضع أكثر إثارة للاهتمام، وبالتالي، فإن الأقطاب الثلاثة الرئيسية التي تم تشكيلها بالكامل بالفعل هي الأنغلو ساكسون، وروسيا، والصين، بحيث بات من الواضح أن كل منها ستصر على هويتها التاريخية وشعاراتها الخاصة بها.
وأمام هذا التشكيل ليس من الواضح على الإطلاق أن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، على الرغم من ارتباطها القوي ببريطانيا وأستراليا، ستستمر في طريق الليبرالية المتطرفة، وما بعد الإنسانية، وانحطاط مجتمع المثليين وما إلى ذلك. أي نموذج العولمة فشل فشلاً ذريعاً حيث يتم رفضه بشكل متزايد في كل من الولايات المتحدة وأوروبا. لذلك لا يستبعد المحللون إمكانية عودة ترامب والترامبية الشعبوية على نطاق أوسع في الولايات المتحدة.
أما في أوروبا، يمثل الاتجاه المتصاعد لتيار المحافظين الجدد شخصية مثل إريك زمور ، نجم الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، فهو الذي يرفض بشكل جذري الليبرالية، ويدعو إلى وقف كامل للهجرة، والعودة إلى الهوية الفرنسية، والديغولية والتحالف الأوراسي مع روسياK فيما بدأت الليبرالية تتعثر في المجر وبولندا في أوروبا الشرقية.
لذلك ليس من المؤكد على الإطلاق أنه في عالم ثلاثي الأقطاب – ما بعد الإنسانية وما بعد الحداثيين والمجانين التكنوقراط والمنحرفين الليبراليين- سيحتكرون الشعارات الغربية. في المقابل، لا تزال الصين، بحضارتها التي امتدت على مدى آلاف السنين ونظامها الاجتماعي السياسي الأصلي، تتمتع بميزة هائلة. وليس الاقتصاد والرقابة السياسية للحزب الشيوعي الصيني هما مفتاح نجاح الشعارات الصينية فقط، فالمجتمع الصيني -الدولة والشعب على حد سواء – هو نظام قيم متماسك، ذو بعد إمبراطوري وأخلاقيات ونوع من الميتافيزيقيا الصينية. إنها ليست مجرد مسألة قوة، لأن النقطة المهمة هي أنه بين قوة الحزب الشيوعي الصيني والمجتمع الصيني تكمن قارة كاملة من الثقافة الصينية التقليدية، وأنثروبولوجيا، وأخلاقية، وروحية، وستزداد قوة الصين وستوسع نفوذها في المناطق المجاورة.
لقد حان الوقت كي تفكر روسيا في الشعارات الروسية، حول الهوية الروسية، والوعي الذاتي التاريخي، ونظام القيم الروسية، الذي لا يقل أصالة وتميزاً عن نظام الغرب أو الصين، والأمر يستحق أن تنتقل روسيا إلى التاريخ الروسي، إلى كنوز الأرثوذكسية والتقاليد التي لا تقدر بثمن، إلى الأدب والفن، إلى الفلسفة الدينية، إلى أخلاقيات العدالة الروسية والتضامن. ومرة أخرى الغرب والصينيون والروس، هم ثلاث حضارات التي ستكون قريباً الأقطاب الرئيسية للتعددية القطبية، في المقابل ستتاح للحضارات العربية، والهندية، والأفريقية، والأمريكية اللاتينية، بكل خصوصياتها المحلية، الفرصة لمضاعفة شعاراتها للدفاع عن هويتها وتطويرها لبناء دولها وثقافاتها وأنظمتها، لذلك يجدر النظر إلى عالم متعدد الأقطاب بمسؤولية وبنوايا حسنة قوية.