دراساتصحيفة البعث

قيم الديمقراطية في أمريكا تبحث عن ديمقراطية

محمد نادر العمري

لم يكن ادّعاء الولايات المتحدة الأمريكية تبنيها وتطبيقها للديمقراطية وحقوق الإنسان سوى وسيلة تتمكّن خلالها من التغلغل في عقلية النظام الدولي، وتلميع صورتها على مستوى شعوب العالم، واستخدام القوة العسكرية بذريعة فرض هذين الشعارين ضد الدول التي تتعارض معها على مستوى السياسات والمواقف الدولية.

ولعلّ أبرز صور توظيف ذلك برز على المستوى الداخلي من خلال التمييز العنصري الذي يطبّق على المواطنين السود من ناحية، ومن ناحية أخرى من خلال تفوق الطبقة الثرية التي تفرض آراءها ومعتقداتها ومصالحها ضمن المنظومة الاقتصادية الداخلية، وحتى على المستوى السياسي الداخلي، حيث ينحصر التنافس السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين يعبران عن السلطة والنفوذ والرأسمال المحتكر في أميركا رغم وجود العشرات من الأحزاب السياسية المغيبة بشكل مقصود على الساحة السياسية الداخلية.

ووفقاً للمؤشرات الديمقراطية الداخلية لا تصنّف أميركا دولة يمقراطية وفق معايير تطبيق الديمقراطية للأسباب التالية:

أولاً: حصر التنافس السياسي بين حزبين تربطهما تقاطعات سياسية ومصالح، وإن بدا بعضها متناقضاً، إلا أنها في الجوهر تمثّل مؤسسات الدولة العميقة التي تؤثر في صنع القرار الأمريكي.

ثانياً: وجود بيئة تمييزية عنصرية في الداخل الأمريكي، البعض منها مشرّع بقوانين تحمي مرتكبيها كما هي حال ممارسات رجال الشرطة من البيض المتطرفين تجاه المواطنين السود، وكذلك تجريم معاداة الصهاينة وهو شكل من الأعراف التي سادت في أمريكا ضمن ما يُسمّى رفض التشكيك بالمحرقة ومعاداة السامية.

ثالثاً: احتكار القوة والنفوذ والرأسمال من قبل عائلات معروفة.

ولعلّ الفجوة أو أكبر الجوانب كشفت عنها الأحداث الدرامية التي شهدتها أمريكا منذ تولي الرئيس السابق دونالد ترامب الحكم وقراراتها العنصرية بحق اللاجئين، وتصنيف دول العالم ومعاقبة المنظمات الإنسانية الدولية، وإيقاف الدعم عنها، ومن ثم اقتحام الكونغرس وما تلا ذلك من تطورات، أظهر أن قيم الديمقراطية غائبة أو في أحسن التعبيرات مهتزة وغير راسخة في أمريكا.

هذه الأحداث أثبتت أن هذه القيم غائبة أو مهتزة لدى الكل بلا استثناء، لدى الطبقة السياسية الحاكمة، ولدى النخبة السياسية، ولدى الشعب الأمريكي نفسه أو قطاعات كبيرة جداً منه، حينما لجأ لشراء كميات كبيرة من السلاح تعدّت ٢٦٠% في بعض الولايات بعد تفشي كورونا في تعبير عن العنف للبحث عن الأمن.

ومن جانب آخر تتجلّى أكبر قيم الديمقراطية في احترام المؤسّسات، وهذه قيمة كبرى في أي نظام ديمقراطي، لأن قوة واستقرار مؤسّسات الدولة أكبر تجسيد لنجاح التجربة، وهي النتيجة التي يطمح بالوصول إليها أي نظام سياسي يسعى إلى الاستقرار، واحترام المؤسسات قيمة كبرى لأنه هو الذي يحمي المجتمع من تطرف الأحزاب والقوى المتناحرة. وعلى الرغم من محاولة إبراز هذا الوجه الديمقراطي غير أن هذه المؤسّسات تمارس أكثر أشكال الاستبداد حينما تتخذ قرارات الحروب وتشريعات محاصرة لدول وإفقار شعوبها، وحتى في أكثر النقاشات التي تحصل داخلها لا تعبّر عن وجه الديمقراطية بقدر الترويج الإعلامي لأحد الحزبين لاستقطاب الناخبين.

نعرف أيضاً ما حدث بهذا الخصوص أن الرئيس السابق ترامب لم يظهر أي احترام للمؤسسات الأمريكية، مع أنه بصفته رئيساً هو أول من يجب أن يفعل هذا، اتهم كل المؤسسات الأمريكية بالفساد، بما في ذلك مؤسسة القضاء. وبرّر ترامب ذلك معتبراً أن المؤسسات الأمريكية تواطأت عليه وانحازت ضده، مما دفعه لإهانة قدسية هذه المؤسسات عندما دفع مؤيديه لاقتحام الكونغرس.

حتى بايدن هو الآخر لا يخلو من وجاهة ادعاء الديمقراطية، عندما استخدم أسوأ العبارات التي صُنّفت غير أخلاقية في المناظرة التلفزيونية ضد الرئيس الأمريكي ترامب، وعندما شرع في توظيف المؤسسات الأمريكية بعد فوزه لاستمرار فرض العقوبات على الصين وروسيا وسورية وإيران وغيرها من الدول رغم ادعائه أنه سيدعم  الديمقراطية ويسرّع في حل الأزمات!.

ومن أكبر مؤشرات القيم الديمقراطية، الاحتكام فقط إلى الخلاف والصراع السياسي السلمي، وتجريم اللجوء إلى العنف والإكراه لفرض الرأي أو الموقف السياسي، لكن هذه القيم تمّ الدوس عليها في عملية اقتحام الكونغرس التي كان هدفها إجبار أعضاء الكونغرس بالعنف والإكراه على عدم إقرار نتيجة الانتخابات.

الملاحظة المهمّة هنا التي يجب أن نتوقف عندها هي أن كل طرف من أطراف المعركة الدائرة في أمريكا يعتبر نفسه المدافع عن الديمقراطية الأمريكية، وهو ما ينطبق على السياسة الخارجية، فأميركا التي يديرها أحد هذين الحزبين أو كلاهما تشنّ الحروب وتخلق الفوضى وتفرض العقوبات تحت ما يُسمّى نشر الديمقراطية. وهو ما يقودنا للإيمان بمسلمة أساسية قوامها أنه إذا كانت هذه القيم الجوهرية للديمقراطية في الداخل الأمريكي غائبة، فعن أي نموذج عالمي للديمقراطية والحرية تتحدث أمريكا عنه وتريد أن تصدّره إلى العالم؟!.