الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

المعرفة.. نصف الطريق!

حسن حميد

ربطتني بالمستشرق الألماني ستيف دوبيان صداقة ضافية أعتزُّ بها، وهو من أصل أرمني، عاش في ألمانيا حتى ظنّها بلاده، وقد غدت كذلك حقّاً، عرف لغتها مثلما عرف اللغة الأرمنية من والديه، وتعلّم العربية وعشقها أيضاً. بيني وبين ستيف رسائل همّها الأول، همّ إنساني، ولكننا نتحدث في الثقافة، والتاريخ، والجغرافية، وعلم الأفكار، والأكثر نتحدث عن المستقبل، لقد كتب إليّ: من لا يفكر بالمستقبل، مستقبل الابن، ومستقبل المكان، ومستقبل الأوطان، لن يعرف لذة العيش، ولن يتذوق طعومها الآسرة، المستقبل هو نحن، هو أحلامنا، وهو صورتنا! يظنّ بعضنا أن الحاضر مرمدة بلا جمر، وعلينا ألا نحبط من هذا، وألا نغلق الأبواب، ونقول انتهينا، أو نقول مرحباً بالعتمات.

لا.. علينا على الأقل أن نحافظ على المرمدة لأنها مكان النار، مكان الوقيدة، وأن نسعى إلى كلّ ما يساعدنا على إيقاد نارنا المعرفية، وإلى كلّ ما يظهر صورتنا الحقيقية التي حافها ظلم طاغٍ، ولفّتها عتمات خانقة شاسعة، وطالها تشويه يشبه التشويه الذي طال حضارات إنسانية باذخة في جمالها، مازلنا نتذكرها رغم اندثارها، ولعل أقربها إلينا حضارة الهنود الحمر التي امّحت.

لكن الرسالة الأخيرة من ستيف دوبيان، أعادت تشكيل قلقي الذي أعرفه ويعرفني منذ أن وعيت على مأساة فلسطين، منذ أن صار تاريخها وحزنها ومكانها وأحلام أهلها نشيدي.

قال ستيف دوبيان في رسالته: أتظن، يا صديقي، أنكم عرفتم نفسية الإسرائيلي الذي اتخذ هذا الاسم قناعاً سياسياً منذ عام 1948 من التجارب والمواجهات معه، أم من الكتب والفنون التي تحدّثت عنه! وهل أدركتم أبعاد السلوكيات التي يتميّز بها، أو التي يتقفاها، لتصير له صورةً فتعرّف به؟! هل عرفتموه من دمويته وحقده وبطشه ومجازره التي اقترفها قبل عام 1948 وما بعده؟! أو عرفتموه من تحالفات مع الآخرين؟! وأنا لا أريد إجابات لأنها تبدو سهلة حين ندرك أبعاد ما حدث في الطنطورة، وكفر قاسم، ودير ياسين، وصبرا وشاتيلا، أنا أطرح أسئلة كي أعرف معكم الطريق إلى معرفة الإسرائيلي المعرفة الحقّة، لأنني على قناعة بأنكم من دون معرفة الإسرائيلي المعرفة الحقّة لن تهزموه، ولن تستعيدوا بلادكم، فالزمن الجارح /البارد/ البليد عاطفياً/ المستند إلى القوة لا إلى الحقّ، هو إلى جانبه تصديقاً لكذبه، وتجميلاً لقبحه، وإسكاتاً لصوت العدالة، فماذا أنتم فاعلون؟!.

هزّتني رسالة ستيف دوبيان بصراحتها، وتنبيهاتها، كي نواجه أنفسنا بمرآة طبيعية لا تحديب فيها ولا تقعير، فنحن لسنا “لاشيء”، ولسنا “كل شيء”، والدليل أننا نحيط بقضيتنا بفلسطين إحاطة الرحم بالجنين، كلّ شيء نعيشه من أجلها، حتى الهواء، فهو لها. لذلك قلت لصديقي ستيف دوبيان: نحن طلاب بلاد منقوش اسمها على ذراع الزمن، لها حضارة ناددت حضارات أخرى، ولها عمران نادد حضارات أخرى أيضاً، فأهلنا ما كانوا طيوراً تلتقط الحبّ، بل كانوا زرّاعاً للحبّ، وما كانوا أهل خوف من البحار أو الأنهار لأنهم أنسنوها! والمعابد التي بنوها، باتت معابد لأهل الدنيا كلّها، من أيام الوثنية، أيام بعل، إلى أيام التوحيد، وها هي جهة تهاتفها القلوب صباح مساء. قلت لـ ستيف دوبيان، إننا نعرف الإسرائيلي، بأقنعته كلّها، من الكتب، والسلوك، ومن السير الذاتية التي كتبها لأن فيها المستبطن الذي أخفته الأخبار النهارية، نحن نعرف الإسرائيلي من الروايات والأشعار والمسرحيات والأغاني والموسيقى لأن فيها ما أضمرته روحه، إننا نترجم ما ينتجه كي نعرف كل شيء عنه، لأننا على قناعة بأن معرفة العدو /الغاصب/ المحتل هي قطع نصف الطريق لافتكاك حمولة الماضي ومحوها، وافتكاك ما اغتصبه، ومحو كلمة المحتل ومعانيها البغيضة!.

Hasanhamid55@yahoo.com