استغلال “ثغرات” قانون زرع الأعضاء لشرعنة الإتجار.. وقاضي التحقيق يدعو لتشديد العقوبات
بين إتاحة القانون “فرصة جديدة للحياة” تعيد الأمل لمئات آلاف المرضى، واستغلال البعض هذه الفرصة لتحويلها إلى تجارة تدر الملايين، لايزال مفهوم التبرع بالأعضاء وتطبيقاته مثار تساؤلات عديدة بعد مضي أكثر من 18 عاماً على إصدار قانونه، لاسيما مع تحول مصطلح التبرع إلى عباءة تخفي عمليات بيع الأعضاء، أبطالها سماسرة محترفون، وضحاياها ذوو الحاجة إما الصحية أو المادية، وفي التفاصيل نجد أنه منذ إصدار قانون زرع ونقل الأعضاء عام 2003، وجد مئات الآلاف من المرضى فرصتهم في العلاج المقونن بتكاليف زهيدة وإشراف حكومي بدلاً من وقوعهم ضحايا للسماسرة، أو اضطرارهم للعلاج خارج البلاد، حيث حدد القانون /30/ شروط وآليات الزرع، ونص على العقوبات لمن يخالف تلك التعليمات، في محاولة من المشرعين لمنع عمليات الإتجار بالأعضاء.
ورغم نجاح القانون لفترة طويلة بضبط عمليات التبرع، واعتباره نقلة نوعية في الطب الحديث، إلا أن ثغرات عديدة فيه، وبداية الحرب، وانتشار الفوضى، حوّلت الأمر إلى ابتزاز وتجارة تكشّفت تفاصيلها خلال عامي 2014-2015 بشكل أساسي، حيث ألقي القبض حينها على شبكات منظّمة تعمل في تجارة الأعضاء في الداخل والخارج، فيما تحوّلت هذه الحالات اليوم إلى عمليات سمسرة يقوم بها أشخاص يستغلون الحاجة المادية للبعض لبيع أعضائهم مقابل مردود مادي.
ترصّد المرضى
بين التبرع والبيع، يروي نزار “اسم مستعار” تجربته في انتظار كلية متبرع بعد تطور حالته ليصاب بفشل كلوي حاد، فوجّهه الأطباء المشرفون على حالته للبحث بين أفراد عائلته المقربين عن متبرع يطابق أنسجته، غير أن نتائج الفحوصات والتحاليل كلها جاءت سلبية، ليضطر بعدها للبحث عن متبرع حي أو متوفى، في وقت لا تسمح له حالته برفاهية الانتظار.
بعد أسبوعين من تقصيه وبحثه عن كلية مطابقة، حتى لو بمقابل مادي، توجّه أخيراً لكتابة إعلان وتوزيع ملصقات في الطرقات وعلى بعض صفحات التواصل الاجتماعي، أوضح نزار: “لم يمضِ على نشر الإعلان سوى ساعات حتى وردني اتصال من شخص يعرض عليّ إيجاد كلية مطابقة خلال أسبوع واحد بقيمة 70 مليون ليرة، فما كان مني سوى الموافقة واستعجال الإجراءات، حيث تمت عملية الزرع ضمن المشفى على أنها تبرع دون مقابل، وذلك بعد أن دفعت نصف المبلغ سراً قبل العملية، والنصف الآخر بعد التأكد من نجاحها”.
تأويل القانون
حالة نزار أصبحت موجودة وبكثرة، ولا يمكن التغاضي عنها، وفق حديث قاضي التحقيق الثاني بدمشق محمد خربوطلي الذي أشار إلى استثمار البعض، ومنهم أطباء، للقانون وتحويله إلى تجارة، لاسيما فيما يتعلق بالتبرع من غير الأقارب، إذ من النادر جداً إيجاد متبرع ليس من أقارب الدرجة الأولى ليهب أحد أعضائه دون مقابل، لاسيما مع اضطرار البعض لبيع كلية مثلاً بسبب الضائقة الاقتصادية.
وبيّن خربوطلي أن القانون/30/ سمح بعدة حالات لنقل الأعضاء، سواء من حي أو متوفى، وضمن شروط محددة، من بينها ألا يكون عضواً أساسياً للحياة كالقلب مثلاً إذا كان الواهب على قيد الحياة، وألا يتم نقل العضو إذا لم يكن المتبرع كامل الأهلية، والموافقة الخطية من الطرفين، وأن يكون الشاب مؤدياً للخدمة الإلزامية حتى لا يصبح التبرع حجة للإعفاء، أما النقل من ميت إلى حي فيجب أن يتضمن وصية المتوفى، والموافقة الخطية لكافة أفراد أسرته، فإن رفض أحد الأفراد أو الورثة لا يتم النقل.
ستة جرّاحي كلية فقط!
أحد أكثر مواد القانون جدلاً عدم السماح بالنقل من المتوفى دماغياً على الإطلاق، حيث يعتبره القانون غير كامل الأهلية، وهو ما رآه خربوطلي بنداً لابد من تعديله، لاسيما إن كان التبرع بعضو لا يؤثر على حياة الشخص، وأيّده في ذلك رئيس شعبة زرع الكلى في مشفى الكلية بدمشق د. أحمد سليمان الذي بيّن أن برنامج الزرع من المتوفى دماغياً جيد ويجب تفعيله، إلا أنه يتطلب عنايات على مستوى عال من التجهيز، وهو ما لا يتوفر حالياً في المشافي السورية.
وأشار سليمان إلى تسجيل 100 إصابة قصور كلوي جديدة سنوياً لكل مليون شخص، إلا أن الحاجة لزرع كلية تكون في المراحل الأخيرة من القصور، مبيّناً أنه تم إنجاز 76 عملية زرع خلال 2021 في مشفى الكلية، ومثلها تقريباً في مشفيي المواساة والأسد الجامعي، أي بمعدل 220 عملية تقريباً، وهي المشافي الوحيدة التي تتم فيها عمليات الزرع في سورية.
وأرجع سليمان السبب في ذلك إلى نقص جرّاحي الكلية الذين لا يتجاوز عددهم ستة أطباء في سورية، وذلك نتيجة هجرة جميع خريجي بورد زرع الكلية منذ 2002 حتى الآن، كما أن القانون منع إجراء العملية في المشافي الخاصة، وهو ما تحفّظ عليه سليمان، معتبراً أنه لا يمكن لجميع المرضى انتظار دورهم في المشافي الحكومية، فيجب السماح بالعملية ضمن ضوابط محددة.
/500/ ألف تكلفة الزرع
شهران تقريباً هي مدة الانتظار بعد إيجاد المتبرع، يتم خلالها إجراء فحوصات وتحاليل للطرفين، وتقوم اللجنة القانونية التابعة لوزارة الصحة بدراسة ملفي المريض والمتبرع من الناحية القانونية والطبية، فيما تبلغ التكلفة الإجمالية للعملية والإقامة والعلاج والمواد والتخدير 400-500 ألف ليرة تقريباً.
ومع تطور الطب، تعددت الأعضاء التي يمكن نقلها، فيما تسمح القوانين السورية بزرع الكلية والقرنية وجزء من الكبد ونقي العظم، وهنا أشار القاضي خربوطلي إلى منع زرع الخصية قانوناً وشرعاً لأسباب تتعلق بحماية الأنساب والصفات الوراثية، إذ رصدت حالة زرع واحدة في الشمال السوري عام 2013، علماً أنه جرم يعاقب عليه القانون.
لا توجد شبكات
وفيما يعتبر البعض أن السماح بالتبرع من غير الأقارب هو ما شرعن عمليات الإتجار، رأى الدكتور سليمان أنه يحق للمريض الاستفادة من كل الفرص، فلا يمكن ضمان مطابقة أنسجة الأقارب دائماً، معتبراً أن الحديث عن شبكات كبيرة للإتجار غير دقيق لما تحتاجه العمليات من تجهيزات وكوادر كبيرة، فما يحدث اليوم من حالات غير قانونية هي عمليات بيع فردية.
بدوره أوضح خربوطلي أن كل عمليات البيع حالياً تتم تحت غطاء التبرع على أعين المشافي والمحاكم، فالحالات المضبوطة لا تعبّر عن الوضع الحقيقي الذي يؤكد الانتشار الواسع لبيع الكلى تحديداً، حيث يصعب كشف الجرم إن لم يتقدم أحد الطرفين بشكوى، وهي حالة لا تحدث إلا إن ظهر خلل ما بعد العملية، موضحاً أنه قبل 2011 كان عدد الدعاوى قليلاً، ولم تتواجد شبكات منظمة للإتجار، بعدها زادت عصابات سرقة الأعضاء سواء من متوفين أو أحياء، ولكن بعد 2016 تراجعت الحالات مجدداً حتى سجل 4 دعاوى فقط في 2021!.
تخفيف الحكم
باختصار، وصف قاضي التحقيق عقوبة الإتجار في القانون بغير الرادعة، فهي تنص على الأشغال الشاقة 3-15 سنة، وغرامة 50-100 ألف ليرة، وتشمل الواهب والآخذ والسمسار والطبيب، مقترحاً أن يكون تشديد العقوبة على التاجر فقط، فمن يبع كليته لضائقة مادية لا يعتبر متاجراً بالأعضاء، وكذلك من يدفع أي مقابل مادي لينقذ نفسه، موضحاً أنه من باب العدل والإنصاف في القانون فإن الكثير من الملقى القبض عليهم يوقفون لفترة قصيرة، وذلك بعد أن يرى القاضي أن الشخص اضطر لبيع أحد أعضائه لأسباب معيشية فيخفف الحبس لـ 9 أشهر فقط، وأشار خربوطلي إلى “ضرورة تعديل القانون وتفصيله بشكل أوسع بإشراف تام من وزارة الصحة، وتفعيل بنوك الأعضاء، والتوعية لأهمية التبرع لكبح جماح الإتجار”.
هذه الدعوة أو الإشارة من قاضي التحقيق الثاني بدمشق نأمل أن تلقى الصدى المناسب من قبل أصحاب الشأن حتى لا نصبح أمام ظاهرة خطيرة تهدد أمن المجتمع.
ريم ربيع