مأزق واشنطن الاستراتيجي ما بعد الحرب العالمية الثانية
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
دقت الاختناقات الاستراتيجية في السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة على مدى العقد الماضي ناقوس الخطر بشأن تغيير وشيك في النظام العالمي في رئاسة أوباما وترامب. ويبدو أن ميثاق “أوكوس” هو الطريق للخروج من المأزق الاستراتيجي في واشنطن ولندن لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يجب أن يبدأ عملية تمهيد الطريق لظهور نظام “أنكلو ساكسوني” أبيض بروتستانتي جديد .
على الرغم من أن التعاون الأمني والاستخباراتي بين دول الكومنولث قد تم تأسيسه بالفعل في مجالات مثل “العيون الخمس”، فقد دخل هذا التعاون مرحلة جديدة لتعزيز القوة الأنكلو ساكسونية. وقد سبق لهنتنغتون أن تحدث عن الحاجة إلى ترسيخ مثل هذا النظام في كتبه “نظرية صراع الحضارات”، وكذلك في كتابه “من نحن”. وقد انعكس إنشاء مثل هذا النظام تاريخياً منذ حوالي ألفي عام في أهم أسطورة أوروبية ، “إينيد” لـ فيرجيل. في هذا العمل، واجه الإمبراطور أوغسطس، الذي كان يفكر في مهمة حضارة العالم، تحدياً في كيفية ربط فكرة الجمهورية بالواقع الصعب للإمبراطورية، وحتى الختم الفيدرالي الأمريكي المسمى “الختم العظيم” منقوش عليه شعار يعني” نظام جديد لجميع الفترات”.
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 1992 ، كتب جو بايدن، والذي كان حينها رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وعضو اللجنة الفرعية للشؤون الأوروبية، مقالاً في صحيفة “وول ستريت جورنال” بعنوان “كيف تعلمت أن أحب النظام العالمي الجديد”.
في ورقته البحثية في ذلك الوقت، اقترح بايدن إنشاء نظام عالمي أمريكي باستخدام النفوذ الاقتصادي بدلاً من القوة المطلقة، والهيمنة والتأثير في الأسواق العالمية، والتأثير الدبلوماسي في المجتمع الدولي. هذا الأمر ، بالطبع ، كان مدعوماً من قبل الجيش الأمريكي واستخدام الحرب والعقوبات ضد الدول لتي تعارض السياسات الأمريكية، والنظام الذي جاء به ما يسمى السلام الأمريكي (باكس أمريكانا)، يوفر بالإضافة إلى استخدام النفوذ الاقتصادي، مثل هذه القوة العسكرية بحيث لا يمكن لأي منافس مواجهة القوة الأمريكية. وبعبارة أخرى، حددت الولايات المتحدة، بصفتها الشرطي العالمي، ألغاز هذا النظام الجديد وحلتها بالشكل الذي تريده.
من خلال هذا النهج، لا ترى الولايات المتحدة نفسها في الوضع الحالي كدولة تتمتع بحقوق متساوية مع الدول الأخرى، ولكنها ترى نفسها أساساً كدولة لا بد من الحفاظ على هيمنتها العالمية بأي ثمن لحماية مصالحها. في الأساس، في هذا النظام العالمي الجديد، يعود حق تحديد الصديق والعدو المشتركين للولايات المتحدة فقط. لذلك، بصرف النظر عن روسيا، التي كانت العدو المشترك للغرب لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، يجب تحديد عدو آخر- الصين هذه المرة – لإظهار هذا النظام الأنكلوسكسوني الجديد. بعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة وحدها هي التي لها الحق في إخبار حلفائها في أوروبا وشرق آسيا احتكار تعريف الصديق والعدو أمر يجب الحفاظ عليه في النظام الجديد بطريقة تستغل حتى الحلفاء مثل أوروبا وحلف شمال الأطلسي، الذين يُجبرون دون موافقتهم على اتباع الولايات المتحدة.
أدى الانهيار الحالي للنظام العالمي إلى انتشار مراكز الأزمات في جميع أنحاء العالم، مما يهدد الأمن والسلام العالميين، فالنقاط الساخنة مثل تايوان وأفغانستان والعراق وأوكرانيا ومنطقة البلطيق، ومعركة النفوذ في القطب الشمالي والمحيط الهادئ ، وحتى التهديدات عبر الوطنية والعالمية مثل انتشار الأوبئة وإمكانية الحرب البيولوجية والإرهاب البيولوجي، وحتى الحروب السيبرانية المعقدة أو التهديدات لأمن الفضاء يمكن أن تزيد من اشتعال النيران. لذا فإن ما يتم اقتراحه الآن في نموذج النظام الجديد من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا هو نظام أنكلو ساكسوني جديد يجب على الآخرين إما الانضمام إليه أو المعاناة منه.
في خطاب ألقاه في مؤتمر بنك التصدير والاستيراد في 5 نيسان 2013 ، في واشنطن، شدد بايدن على أنه نظراً للتغيرات في النظام العالمي، يجب على الولايات المتحدة التفكير في إنشاء نظام عالمي جديد.
من غير المرجح أن يكون العمل مع الحلفاء والشركاء الأوروبيين بنفس الأهمية التي كان عليها من قبل، ومثال ذلك إخراج فرنسا من معاهدة” أوكوس”، ودعم واشنطن في وقت سابق خلال عهد ترامب لحليفتها منذ فترة طويلة، بريطانيا ، للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تهديد الاتحاد الأوروبي بالانسحاب من اتفاق نووي متعدد الأطراف مع إيران، وتحذير الاتحاد الأوروبي من محاولة انتهاك العقوبات الأمريكية أحادية الجانب، وكذلك استبعاد أوروبا من القرارات التي كانت حتى أوروبا نفسها جزءاً مهماً منها، والانسحاب من أفغانستان دون إبلاغ الأوروبيين مسبقاً، والأزمات في الشرق الأوسط التي تشكل أكبر نقاط ضعف على الدول الأوروبية في شكل موجة من اللاجئين، والتي تشير جميعها إلى أن واشنطن ولندن تتركان أوروبا وحيدة وتتجهان نحو نظام أنكلو ساكسوني جديد.
وتحاول أمريكا إجبار دول العالم، وخاصة أوروبا، أن تقبل تحول النظام العالمي الحالي إلى نظام أنكلو ساكسوني جديد. هذا النظام، الذي يتجسد حالياً بمعاهدة “أوكوس” التي تتمحور حول النظام الناطق باللغة الإنكليزية، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وحتى الهند تسعى إلى إنشاء مصفوفة أمنية لمواجهة الصين ثم روسيا كأعداء محددين مسبقاً.
يبدو أن استبدال النظام القديم بميلاد النظام الأنكلوسكسوني الجديد قد بدأ. والسؤال هو ما إذا كانت أوروبا وحلفاؤها السابقون غير الناطقين بالإنكليزية يسعون مرة أخرى لتحقيق التوازن بين مصالحهم والأمريكيين وتجاهل التهديدات الأقرب والأكثر إلحاحاً والمحتملة كجزء من لعبة الهيمنة الأمريكية على العالم. بالطبع، سيظهر الوقت ما إذا كانت أوروبا ستتحرك نحو موازنة هذا النظام الأنكلوسكسوني، أم ستنضم إليه وتذوب فيه أخيراً.
بالنظر إلى أن مرور الوقت يشير بوضوح إلى سقوط نظام ما بعد الحرب الباردة الأمريكية، صرح جوزيب بوريل، منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في اجتماع لوزراء دفاع الاتحاد الأوروبي في ليوبليانا، سلوفينيا، بأن على الاتحاد الأوروبي “تعلم العديد من الدروس من الاضطرابات الناجمة عن مغادرة أفغانستان” ، وأهمها “إنشاء تحالف داخل أوروبا للتجاوب بسرعة مع الأزمات العسكرية، منتقداً البيت الأبيض، وقال إن “الرئيس الأمريكي لم يعر أي اهتمام لمطالب الأوروبيين في عملية مغادرة أفغانستان”.