بانقيادها الأعمى وراء واشنطن.. أوروبا تدمّر أمنها وتحجز مقعدها خارج النظام العالمي الوليد
البعث الأسبوعية- طلال ياسر الزعبي:
يمارس الساسة الأوروبيون نوعاً من الغباء بانقيادهم الأعمى وراء سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، ظناً منهم، وهم مخطئون، أن واشنطن تقودهم بالفعل إلى برّ الأمان سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
هذا التصوّر للأسف يسيطر على معظم السياسيين والقادة الأوروبيين لدرجة أنهم يصدّقون دائماً على ما يصدر من واشنطن دون أن يكون لهم رأي مستقل على الأقل فيما يخص حاجاتهم الأمنية الأساسية، وهذا طبعاً مردّه إلى أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة استطاعت عبر الدعاية إقناع الدول الأوروبية أنها الطرف الوحيد الذي أنقذ أوروبا من كابوس الزعيم النازي أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية، وهي بالتالي الحليف الوحيد لهم الذي يدعمهم من خلف المحيط، علماً أن الدور الأساسي في تدمير الجيش النازي الذي اجتاح أوروبا كان لصمود الجيش الأحمر السوفييتي في وجهه.
ولتثبيت هذه الفكرة في أذهان الدول الأوروبية التي خرجت ممزّقة من الحرب العالمية الثانية، قامت الولايات المتحدة بإقناعهم بإنشاء منظومة سياسية تشكّل مظلّة أمنية لهم في مواجهة المخاطر العسكرية التي تتهدّدهم، وهي حلف شمال الأطلسي الذي تم إنشاؤه في 4 نيسان 1949 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي لا تزال ويلاتها ماثلة في أذهانهم، فوجدوا في إنشاء هذا الحلف ملاذاً آمناً لهم.
واستمرّت الإدارات الأمريكية المتلاحقة بتزيين دور هذا الحلف السياسي والاقتصادي والعسكري في تقدّم أوروبا، وخاصة بعد التمكن من الانتصار على حلف وارسو الذي كان يضم المعسكر الشرقي الاشتراكي، وانضمام أغلب دوله إلى هذا الحلف، الأمر الذي رسّخ في أذهانهم حتمية البقاء تحت هذه المظلة واستحالة إنشاء منظومة أمنية مستقلة خاصة بهم، علماً أنه لم يتمّ حتى الآن تحقيق الانسجام بين دول شطري القارة فكرياً على الأقل، وبغض النظر عن العقيدة والعرق.
ورغم أن السنوات الأخيرة حملت مجموعة من الإشارات إلى أوروبا بضرورة أن تكون لها منظومة أمنية وعسكرية مستقلة عن الحلف، وخاصة بعد الهزات الكبيرة التي تعرّضت لها اقتصادياً على يد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وانسحاب بريطانيا الممنهج والمخطط له سلفاً بالاتفاق مع واشنطن من الاتحاد الأوروبي، إلا أن كل ذلك لم يتمكّن من إقناع الأوروبيين بضرورة البحث عن منظومة أمنية خاصة بهم ترتكز على التفاهم مع المحيط وخاصة الاتحاد الروسي الذي يعدّ امتداداً طبيعياً لهذه القارة، مع وجود محاولات عديدة مؤخراً من فرنسا وألمانيا لإنشاء جيش أوروبي مستقل يكون بديلاً للتبعية لحلف شمال الأطلسي الذي بات ألعوبة بيد واشنطن تحرّكه كيفما تشاء دون النظر إلى مصالح سائر الدول.
وعندما حدثت محاولات أوروبية لافتة للتقارب مع موسكو اقتصادياً وأمنياً، وخاصة من ألمانيا وفرنسا الدولتين الأساسيتين في الحلف استشاطت واشنطن غضباً وشرعت في صناعة الأزمات بين موسكو وسائر العواصم الأوروبية بالاعتماد على أداتها الأوروبية بريطانيا، حيث صنعت الاستخبارات البريطانية بداية قضية تسميم العميل الروسي المزدوج سيرغي سكريبال وما رافق ذلك من حملات دعائية منظمة لشيطنة روسيا وتثبيت فكرة “روسوفوبيا” في أذهان الدول الأوروبية، فضلاً عن محاولة استهدافها مرة أخرى عبر شيطنة حليفها المباشر بيلاروس من خلال تضخيم قضية الطائرة الإيرلندية، وقضية اللاجئين، وما رافق ذلك أيضاً من حملات منظمة ضدّ موسكو للقول إنها تدعم نظاماً دكتاتورياً في مينسك، وكل ذلك طبعاً في محاولة لإحداث ثورة برتقالية جديدة في هذا البلد تؤدّي إلى تعيين حكومة موالية لها تكون مطية لتوسّع “ناتو” مجدّداً إلى حدود روسيا.
ورغم أن الدول الغربية رفضت انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وقالت إنه لم يحن الوقت لمثل هذا الإجراء، إلا أنها وبمجرّد تفجّر النزاع بين موسكو وكييف على خلفية سيطرة القوميين الأوكرانيين على الحكم في أوكرانيا وانحياز هؤلاء إلى أن يكونوا رأس حربة للأطلسي في استهداف موسكو، فضلاً عن إصرارهم على حل مشكلة إقليم دونباس بالقوة، وما كُشف فيما بعد عن نيّتهم اجتياح الإقليم، تصرّ الدول الأوروبية على الانحياز لرغبة واشنطن في فرض حصار غير مسبوق على موسكو، من خلال إلغاء بعض الاتفاقيات الاقتصادية معها أو تعليقها، كما حدث بشأن مشروع السيل الشمالي 2 الذي علّقت ألمانيا العمل به من جانب واحد، مع كل ما يحمل هذا المشروع من نواة لتحالف اقتصادي متين بين البلدين أثار حنق واشنطن، كذلك حظر الطيران والتعامل المالي مع روسيا عبر إخراجها من نظام سويفت المالي، وذلك كله رغم إقرار السلطات الأوروبية أن العقوبات ستضرّ بالاقتصاد الأوروبي نفسه.
والكارثة الكبرى في كل ذلك أن هذا الصراع يتم تسخينه على الأراضي الأوكرانية عبر قيام الدول الأوروبية بتحريض من واشنطن بإمداد السلطات في كييف بأسلحة فتاكة لقتال الروس، فضلاً عن قيامهم بتجنيد مرتزقة من جميع أنحاء العالم للقتال إلى جانب المتطرفين الأوكرانيين ضدّ القوات الروسية بعد تزويدهم بمنظومات متطوّرة من الأسلحة والسماح لهم بعبور الحدود من أوكرانيا وإليها، الأمر الذي يتيح لهؤلاء فيما بعد، إذا افترضنا انتصار روسيا في الحرب وسيطرة حكومة موالية لها على الحكم في أوكرانيا، الارتداد بشكل تلقائي إلى الدول الأوروبية التي سهّلت تنقلهم مع كل ما يحملون من أفكار أيديولوجية خاصة بهم، وتشكيل خلايا إرهابية في هذه الدول بعد استحالة السيطرة عليهم لعدم التفكير في هذا الاحتمال سلفاً، وبالتالي انقلاب السحر على الساحر، بحيث يتحوّل هؤلاء الإرهابيون الذين تم تجنيدهم لقتال الروس إلى قنابل موقوتة على الأراضي الأوروبية يتعيّن على الدول الأوروبية مواجهتها داخل مدنها.
وهذا كله بالإضافة إلى خطر وقوع صدام مباشر بين القوات الروسية وقوات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الذي حذّر منه نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو، مؤكداً أن وعد ناتو بقبول أوكرانيا في عضويته يمثل قنبلة موقوتة كانت ستنفجر عاجلاً أم آجلاً، مشيراً إلى أن كل ما فعله ناتو بعد الحرب الباردة انتهى بكارثة وأن كل توسّع جديد له أدّى إلى تدهور أمن الحلف نفسه. موضحاً أن الأمريكيين يريدون إخضاع إمكانات الاتحاد الأوروبي بالكامل لـ”ناتو”.
وفي المحصلة، يقوم الأوروبيون الآن بتحويل الدول الأوروبية إلى مغناطيس لاستقطاب المتطرفين الأجانب من كل مكان على اختلاف انتماءاتهم، وخاصة أولئك الذين تدرّبوا على حرب العصابات من “داعش” والحركات الإرهابية الأخرى، الذين يتم إطلاقهم من سجون “قسد” وغيرهم من الإرهابيين الذين تديرهم تركيا في الشمال السوري، ظناً منهم أن هؤلاء سيحققون لهم نصراً على روسيا بالوكالة، ولكن إذا تم سحق هؤلاء في أوكرانيا فإن فلولهم المنهزمة ستتغلغل في الغرب الأوروبي، الأمر الذي سيصيب الأمن الأوروبي برمّته في مقتل، وخاصة أن أوروبا لا تستطيع أن تنكر أنها هي من منحهم جوازات عبور إليها، وهذا ربّما كان حاجة أمريكية بامتياز، حيث ترى واشنطن أن باستطاعتها إشعال حرب داخل أوروبا تكون هي مجرّد متفرّج عليها لتدمير قوتين اقتصاديتين منافستين في آن معاً روسيا وأوروبا دون أن تطلق هي طلقة واحدة.
لذلك بدأت بعض الدول الأوروبية تستشعر حجم الضرر الذي تسبّبت به لنفسها بعد أن شاهدت الارتفاع المهول في أسعار الطاقة التي تعدّ هي من أكبر المستوردين لها في العالم، وراحت تستجدي من روسيا عدم شمول الغاز والنفط في ردّ فعلها على الحصار الغربي، والمثال الواضح هنا ألمانيا طبعاً، ولكن إذا تحقق الأمر بانتصار روسيا في هذه المعركة على حساب انهيار أوروبا اقتصادياً وأمنياً فإن أوروبا ستحجز مقعداً لها خارج النظام العالمي الجديد الذي سينبثق عن الحرب العالمية الثالثة هذه، حتى لو لم يتمّ الإعلان عنها صراحة.