أزمة أوكرانيا تكشف أجندة واشنطن والعواصم الغربية السرية لإخضاع روسيا
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
من المؤكد أن ما تشهده أوكرانيا هو نتيجة طبيعية للطريقة التي خلقت بها قوى حلف شمال الأطلسي هذ الأزمة. وما يدلل على ذلك هو ما كشفه وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير عندما أعلن مؤخراً أن الدول الغربية تشن “حرباً شاملة” على الاقتصاد الروسي، لكنه سرعان ما تراجع عن أقواله باعتبارها غير ملائمة، ما يدل على أن المسؤول الحكومي الفرنسي الكبير أدرك خطورة ما كان يكشف عنه بشأن رد فعل قوى الناتو على “التدخل” العسكري الروسي في أوكرانيا.
مر أسبوعان على الأزمة في أوكرانيا، وهو ما تعتبرها موسكو عملية خاصة للدفاع عن السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا، وكانت منطقتا دونيتسك ولوغانسك اللتان أعلنتا استقلالهما الذاتي عن أوكرانيا- واعترفت بهما روسيا رسمياً كدولتين مستقلتين- تتعرضان لهجوم عسكري مكثف من قوات نظام كييف المدعومة من الناتو، وبحسب رئيس الوزراء الأوكراني الأسبق نيكولاي أزاروف، فإن التدخل الروسي منع هجوماً بين الناتو وكييف كان من شأنه أن يؤدي إلى مقتل الآلاف.
قال أزاروف: “قبل يوم واحد من بدء الحرب، تم اتخاذ قرارات مصيرية لإبادة السكان الناطقين بالروسية في دونباس. وكان الجيش الأوكراني بقيادة الكتائب الوطنية، يستعد لبدء عملية عسكرية في دونباس في 25- 2-22”.
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة أيضاً إلى أن دعوات موسكو المتكررة لمعاهدة أمنية مع قوى الناتو بشأن استبعاد أوكرانيا في المستقبل من الحلف قد تم رفضها بشكل قاطع، على الرغم من أن الدولة المجاورة شكلت تهديداً أمنياً ووجودياً لروسيا على حدودها، لا يمكن لأي قوة غربية أن تتسامح معه.
على أي حال، كان رد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في الناتو على تدخل روسيا هو الإنكار الصريح لوجود أي سبب معقول لموسكو، وبدورها، شنت وسائل الإعلام الغربية حملة واسعة لتشويه صورة روسيا وإظهارها بأنها “معتدية دون أي استفزاز”.
وبدلاً من الاعتراف بالمخاوف الأمنية طويلة الأمد لروسيا، المتعلقة بتوسيع حلف شمال الأطلسي وخاصة دور أوكرانيا في تشكيل تهديد للأمن القومي الروسي، ضاعفت الدول الغربية من أجندة العداء الممنهج. فالوضع بالغ الخطورة ومعرّض لخطر الانزلاق إلى حرب مباشرة – حرب عالمية ثالثة – بين روسيا وقوى الناتو التي ستؤدي حتماً إلى إبادة نووية، كما حذر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخراً.
إن الاستجابة المنسقة لواشنطن وعواصم غربية أخرى، لفرض حصار اقتصادي على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، هو علامة على الأجندة الإستراتيجية لإخضاع روسيا، ويمكن القول أنها أجندة إجرامية وانتهاك لميثاق الأمم المتحدة.
لقد استمتع زعماء الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا وغيرهم من قادة الناتو باحتمال انهيار الاقتصاد الروسي. وهو نفس النوع من الإرهاب الاقتصادي الذي ترعاه الولايات المتحدة والذي يتعين على كوبا وإيران وفنزويلا وكوريا الديمقراطية وغيرها تحمّله لكي لا تنحني للمطالب الغربية.
بالإضافة إلى هذه الحرب الاقتصادية، تواصل قوى الناتو تكديس الأسلحة والمتعاقدين العسكريين الخاصين في أوكرانيا لخوض ما أصبح حرباً بالوكالة ضد روسيا. وتشير التقديرات إلى أن إدارة بايدن خلال العام الماضي وحده، خصصت مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، كما أن بريطانيا كانت تزود أوكرانيا بالأسلحة، وبدورها، ألمانيا كسرت عقود من المحرمات وانضمت إلى أعضاء آخرين في الناتو لتزويدهم بالأسلحة.
يدعي الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ أن الحلف ليس طرفاً في النزاع، لكن هذا التأكيد كذبة عارية عن الصحة. فقد قام الناتو بتسليح نظام كييف منذ الانقلاب المدعوم من وكالة المخابرات المركزية في عام 2014 والذي جلب إلى السلطة عصابة من النازيين الجدد، حيث تقوم القوات الخاصة من دول الناتو بتدريب الكتائب القومية المتطرفة على استخدام الأسلحة لمهاجمة السكان من أصل روسي في دونباس ممن رفضوا الاعتراف بنظام كييف.
تتزامن الحرب الاقتصادية والحرب العسكرية بالوكالة مع حملة الدعاية الإعلامية المضللة في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية لتشويه صورة روسيا وتجريمها. وفي حالة جنونية، يدعو السياسيون الأمريكيون علانية لاغتيال الرئيس الروسي بوتين، بينما يطالب البرلمانيون البريطانيون بترحيل جميع المواطنين الروس، بالإضافة إلى حظر الشخصيات الثقافية والرياضية الروسية بهدف شيطنة وعزل روسيا.
وفي هذا السياق، يبدو أن الخطوة “المنطقية” التالية ستكون شائنة للغاية، إذ تتمثل بجعل القوى الغربية، الحرب على روسيا وشعبها “قضية عادلة”. في هذا المناخ الجيوسياسي الهستيري، من الضروري الاحتفاظ بالتحليل التاريخي المتعلق بالصراع الراهن.
منذ سنوات، وحتى يومنا هذا يدعو المخططون الإمبراطوريون في الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو علناً إلى اعتبار روسيا والصين كأعداء يمنعون الهيمنة العالمية بقيادة الولايات المتحدة، حيث روجت مؤسسة “راند” على سبيل المثال، بكل وقاحة لتغيير النظام في موسكو.
كانت عربدة الحروب والدمار التي خاضتها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون على مدى العقود الثلاثة الماضية -منذ انهيار الاتحاد السوفييتي- مدفوعة بأجندة لتأكيد الهيمنة والحد من أي معارضة من روسيا والصين وغيرهما. حيث يُعد توسع الناتو الذي لا هوادة فيه والتهديد بالتوسع شرقاً إلى حدود روسيا جزءاً لا يتجزأ من هذه الحروب كما حدث في الانقلاب في أوكرانيا في عام 2014.
لقد وصل العالم إلى ما وصل إليه بسبب العداء الاستراتيجي الذي تقوده الولايات المتحدة تجاه روسيا، فالأمر لا يتعلق فقط بتدخل روسيا في أوكرانيا. وعلى الرغم من تأكيد بوتين للمرة التاسعة بأن روسيا ليس لديها نية سيئة تجاه أوروبا، تسعى وسائل الإعلام الغربية إلى تصوير ما يحدث، على أنه عدوان تشنه موسكو على أوروبا.
يتحدث النقاد الغربيون عن نزعة انتقامية مزعومة لبوتين لاستعادة الاتحاد السوفييتي، وتُفرض العقوبات بزعم إثبات دفاع الغرب عن “القيم الديمقراطية” حيث تستخدم الولايات المتحدة وأوروبا كل وسيلة متاحة لفرض رقابة على وسائل الإعلام الروسية ومنعها من تقديم وجهة نظر بديلة.
من المؤكد، أن خطاب “الحرب الشاملة” ليس زلة لسان أو سوء تصرف مؤسف، فالرغبة والتفضيل المتكرر الذي يتم التعبير عنه لمواجهة روسيا – بما في ذلك اغتيال قيادتها – تُظهر أن هناك ديناميات إستراتيجية طويلة المدى لما يحدث.
فلو كانت واشنطن وشركاؤها في الناتو مهتمين حقاً بالعلاقات السلمية، لما تنصلوا من مقترحات موسكو الأمنية التي طُرحت في كانون الأول الماضي، ولما قاموا بتسليح نظام كييف. ولتحقيق هذه الغاية، تبدو قوى الناتو وكأنها تعرقل المناقشات الجارية حالياً بين روسيا وأوكرانيا لإيجاد تسوية سلمية للصراع بينهما.