ثقافةصحيفة البعث

الجلاء في وجدان الشعراء والأدباء

17 نيسان هو العيد الذي تزهو به الأوطان بذكرى جلاء المستعمر الغاشم عن أراضيها لتنعم بالحرّية التي تمّ انتزاعها بفضل تضحيات جسيمة، وأرواح ارتقت لأبطال قدّموا لوطنهم أغلى ما يملكون، فاسترخصوا دماءهم الزكية في سبيل كل ذرة تراب من أرض هذه الأوطان، ملقّنين القوى الاستعمارية دروساً في البسالة والإباء لنيل الاستقلال.

كان يوم الجلاء منعطفاً مهماً وحقيقياً في تاريخ سورية الحديث، وكان لا بد من أن ينهل الشعراء السوريون من معاني هذا اليوم، وأن تجود قرائحهم بقصائد تخلّد هذه الذكرى، وتؤرّخ للأجيال القادمة تفاصيل هذا اليوم، ولتذكرهم أن الشعب السوري قدّم الكثير الكثير في سبيل حريته واستقلاله.

قال الشاعر عمر أبو ريشة في الحفل الذي أقيم في حلب عام 1946 ابتهاجاً بعيد الجلاء:‏‏

يا عروس المجد حسبي عزة‏‏        أن أرى المجد انثنى يعتز بي‏‏

ربّ لحن سال عن قيثــارتي‏‏         هز أعطاف الجهاد الأشيب‏‏

لبلادي ولروّاد الســـــــــــ،نا‏‏         كل ما ألهمتني من أدب ‏‏

وهلل بدوي الجبل بعودة الحق إلى أصحابه، وتفاخر بالدماء الطاهرة التي بذلت بغزارة لتحقيق الجلاء:

انتزعنا الملك من غاصبه       وكتبنا بالدم الغمر الجلاء

وسقانا كأسه مترعة           وسقينا وفي الكأس امتلاء

واقتحمنا حديدا ولظى          وجزيناه اعتداء باعتداء

سكرت مما ارتوت من دمه    غصص حرى وثارات ظماء

كلما جندل منا بطل            زغردت في زحمة الهول النساء

وكتب شاعر العاصي بدر الدين الحامد بلغة رشيقة قصيدة مؤثرة يحاكي فيها يوم الجلاء:

يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها            لنا ابتهاج وللباغين إرغام

يا راقداً في روابي ميسلون أفق       جلت فرنسا فما في الدار هضام

لقد ثأرنا وألقينا السواد وإن             مرت على الليث أيام وأعوام

غورو يجيء صلاح الدين منتقما        مهلا فدنياك أقدار وأيام

هذي الديار قبور الفاتحين فلا          يغررك ما فتكوا فيها وما ضاموا

مهد الكرامة عين الله تكلؤها           كم في ثراها انطوى ناس وأقوام

تجر ذيل التعالي في مرابعها           المجد طوع لنا والدهر خدام

وتحدث الشاعر شفيق جبري في قصيدته الرائعة عن يوم الجلاء عن فرحة كل السوريين بهذا اليوم:

حلم على جنبات الشام أم عيد       لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد

أتكذب العين والرايات خافقة            أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد

ملء العيون دموع من هناءتها          فالدمع در على الخدين منضود

لو جاء داود والنعمى تضاحكنا          لهنأ الشام في المزمار داود

على النواقيس أنغام مسبحة          وفي المآذن تسبيح وتحميد

لو ينشد الدهر في أفراحنا             ملأت جوانب الدهر في البشرى الأناشيد

أما الشاعر عبد الكريم الكرمي “أبو سلمى” قال:‏‏

النجوم العربية‏‏

خفقت في كل قلب عربي‏‏

هتفت يوم جلاء الأجنبي‏‏

أنا صافحت الخلود‏‏

أنا حطمت القيود‏‏

وجلال الكون تاريخ الفداء‏‏

وأكد الشاعر سليم الزركلي في قصيدة كتبها في يوم الجلاء أن نصر سورية هو نصر للعرب جميعاً:

أ وفود يعرب والديار دياركم                 والعيد في أوطاننا عيدان

عيد بأفراح الجلاء وصنوه                    بتناصر الإخوان والأخدان

أبت العروبة أن تنام على الأذى           أو تنطوي في اليأس والخذلان

وإذا العزائم شمرت عن ساقها            ومشت على الأحقاد والأضغان

ملكت زمام المجد من شطآنه            وتربعت في الملك والسلطان

وتغنى الشاعر عبد الرحيم الحصني في واحدة من أجمل قصائده بعيد الجلاء:

لا الكأس مورد إلهامي ولا الوتر‏           على مفاتن ربعي أينع الوطر‏‏

كرمى لعين بلادي كل جارحة‏‏             ومني غناء ولحن مترف نضر‏‏

لولا الجلاء وما بعد الجلاء لما‏‏              طاب الرحيق على مغناك والسمر‏‏

وقال الشاعر زكي قنصل في قصيدته “يا شام”:

‏حياك مغترب يا شام حيّيه‏                   لا تتركيه يقاسي ما يقاسيه‏

يا شام روحي على مغناك حائمة‏‏          هل ترفقين بجرح خاب راقيه..؟‏

يا شام صلى عليك الله وانهمرت‏‏           على ملاعبك الريّا أياديه‏

طريقنا واضح للنصر مؤتلق‏‏                   الشام أوله والقدس تاليه..‏

وأكد الشاعر نديم محمد أن المؤمنين بالحرية هبوا يناضلون جبروت الاستعمار وحققوا الاستقلال لسورية:

طار في الأفق جناحا وتخطاه رواحا‏‏

عَلمي سكران بالزهو غبوقا واصطباحا‏‏

خفقه أم عبق الطيب من الجنة فاحا‏‏

يفرش البهجة والفرحة ورداً وأُقاحا‏‏

أسكرته كبرياء النصر فاستعلى جماحا‏‏

وقد تعامل الأدباء مع هذا اليوم بتقديس كبير، فهو يوم الحرية المنشودة، ولم يكن الشعر والشعراء فقط من كتب، بل كان ليوم الجلاء حصة كبيرة في الروايات التي كُتبت، وهي تتحدث عن بطولات السوريين وثوراتهم المتلاحقة التي ساهمت بطرد المحتل من أرضها، حيث كتب الروائي فارس زرزور في روايته “حسن جبل” عن فترة الاحتلال الفرنسي في سورية، ومقاومة السكان والأهالي لها، ومثله فعل حنا مينة الذي تحدث عن نضال السوريين في مدن الساحل السوري، في أكثر من رواية “بقايا صور”، و”المستنقع”، و”نهاية رجل شجاع”، ومثلها  رواية “القلعة” للأديب مأمون الجابري التي تحدثت على نضال أهل حلب ومقاومتهم، ورواية “اختياراتي والحب” للأديبة ضياء قصبجي التي تتحدث عن مواجهة سكان حي الجلوم الحلبي للاحتلال الفرنسي. وكذلك فعلت ألفة الإدلبي في أغلب رواياتها، مؤرخة لدمشق ونضال أبناء دمشق ضد الفرنسيين، والروائي وليد إخلاصي تحدث في روايته “أحضان السيدة الجميلة” عن درب السوريين نحو الحرية والجلاء، وأيضاً “الظهور الأخير للجد العظيم” التي كتبها زياد كمال حمامي، ورواية “سقوط الفرنك” لنسيب الاختيار، وغيرها الكثير من الأعمال الأدبية التي حاولت أن تؤرخ لنضال السوريين وثوراتهم حتى حصولهم على حريتهم واستقلالهم.