حبرنا ورصاصهم
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
تلقيت دعوة من فرع دمشق لاتحاد الكتاب للمشاركة في ندوة بعنوان “الثقافة والمقاومة” ووقفة تكريمية لشهيدة فلسطين شيرين أبو عاقلة التي اغتالها العدو الصهيوني وعطرت بدمهم تراب وطنها الذي فطرت على عشقه، وقد أثبتت عبر مسيرتها المهنية إيمانها الكبير بقضيته العادلة وبدورها الثقافي والإنساني، مؤكدة أن الوطن يكبر بأبنائه ويكبرون به، يصونونه ويدافعون عنه، وكل شخص سيبقى تاريخه ملازماً له وحده، وسيتجلى كل إنسان بضميره الذي يخدم قضيته، فثقافة المقاومة هي ثقافة الحريات والعدالة وكرامة الإنسان والأوطان، وقضية وجودية ترتبط بكينونة الإنسان المقاوم، وبمدى معرفته الواعية للذات وللتحديات التي تواجهه، وبامتلاكه لرؤية تتناسب مع أهداف هذه المقاومة يحكمها نظام قيمي وطني وإنساني.
نذرت شيرين عمرها للمهنة التي أحبتها وكانت رسالتها الحياتية، حتى أطلق عليها زملاؤها لقب “المراسلة الأولى” لأنها اتبعت في تغطياتها الصحفية أسلوباً صحافياً متميزاً، فكانت ترابط في المكان الذي تتوقع أن يشهد حدثاً، تجلس بين الناس الذين اختارت مهنة الصحافة لتكون قريبة منهم، ترصد الحكاية بكل تفاصيلها، تستمع إلى حديث أبطال تقريرها، تحاول الغوص في مكنونات نفوسهم، ومن تلك الهواجس والمخاوف والأمنيات، تكتب نص تقريرها.
تعيدنا حادثة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة إلى حادثة اغتيال شهيدة الإعلام السوري يارا عباس التي أعطت باستشهادها مع رفاقها من الشهداء الإعلاميين روحاً جديدة للوطن ليبقى قوياً في وجه الإرهاب، فارتقوا وهم يرفعون الرايات المعطرة بدمائهم الزكية الطاهرة ليرسموا معالم وطن أدركوا بيقين الحقيقة التي اصطفاهم الله لأجلها كم يستحق من تضحيات وعطاءات.
أدركت شيرين أبو عاقلة عندما اختارت الإعلام رسالة لها في الحياة كما كل رفاقها الذين نذروا أنفسهم للحقيقة والكلمة الصادقة، أنه في هذا الزمن ليس من موقف محايد، وما من صمت، فإما أن نكون في موقف الرفض، أو نكون في موقف القبول، وهي اختارت الإعلام والصحافة لتكون شريكة في صناعة الرأي العام، ولإيمانها بأن سلاح الكلمة والصوت والصورة من أقوى الأسلحة، بها تُخاض المعارك الكبرى وهي حروب الجيل الجديد، ومهما كانت الجراح كبيرة لن تعيق إرادة الصمود عن مواصلة شق الدرب نحو شمس الحرية والكرامة، ومهما طغى الطوفان وارتفع فلابد آتية لحظة انحساره وتلاشيه زبداً وفقاعات فارغة على صخور الإرادة والتصدي، فكان اغتيالها اغتيال لمبادئ الحقيقة والعدالة، لكن لا يمكن للرصاص أن يقتل القضية وإيمان الناس بها.
مع الأسف لم تكن شيرين أبو عاقلة أول من يُقتَل من الصحفيين خلال ممارسة عمله، ولن تكون الأخيرة، فعلى امتداد تاريخ المقاومة العربية سُجّلت مئات الانتهاكات تجاه الصحافيين من قبل قوات الاحتلال الصهيوني والإرهاب، وستبقى مدرسة شيرين النضالية تلقن تلميذاتها وتلاميذها الذين علمتهم أخلاق المهنة وقيمها وآدابها منها، وكيفيّة الانتِصار للعدالة سيحملون الراية من بعدها، ويواصلون المسيرة بكل عزيمة وإصرار.
نعرف أن الموكب طويل جداً، وقافلة الشهداء ينضم إليها كل يوم علم جديد، فما أروع ارتقاؤكم ياأنبياء زمننا المتشح بالسواد وأنتم تسيرون في زفاف يرسم معالم النصر الأكيد.. أنتم عشاق الوطن ستبقون أنشودة الخلود، بدمائكم الزكية وأياديكم الفتية صُنعت الحضارة، وبمجدكم رفعتم لواء الأمة، فكانت قوتكم أمام ضعف الأعداء وشجاعتكم أمام جبنهم، لأن عزيمة الرجال هي التي تصنع النصر، ولأن الذين صنعوا حضارة العالم وناضلوا في سبيل الإنسانية هم الرجال الحقيقيون فقد مجدهم التاريخ وحفظ أسماءهم في أنصع صفحاته، ونعدكم أننا سنبقى قلم الحبر والمعتدون هم الرصاص.