بائع الورود… طبيب الحكايات
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
اعتاد المارة على وجوده وهو يجلس بين أصص الورود والنباتات، يعتني بها، ويبيعها، فارشاً الرصيف بحضورها وكأنها تغني له: “عمي يا بياع الورد”، وما إن يشتري أحدهم النبتة المزهرة بالمنثور، ويحملها، تلتفت مع أغصانها إلى صديقاتها النباتات وتودعهن لأنها لن تراهم مرة ثانية أبداً.
مشهد كأنه لوحة تشكيلية بين المفاهيمية والواقعية والرومانسية، لو رآه فنسنت فان غوغ لرسم أكثر من لوحة تشبه لوحته “حقل عبّاد الشمس”، ولاستوحى منه لؤي كيالي لوحة للورود تضاف إلى لوحاته من زهور المرغريت وعباد الشمس.
تواصل النباتات انتظارها مع مزارعها، منها ما يختلس النظر من سيارة “البيك آب” المزينة بهذه النباتات والسلات القشية الجميلة، ومنها ما يعبّر عن حزنه باصفرار بعض أوراقه، ومنها ما يضيف للمشهد الأناقة والجمال في هذه الزاوية القريبة من جامع التوحيد، والكنيسة، والفيلات، وتجميل نهر قويق.
بينما أتقدم نحوه رأيت الفراشات الربيعية ترفرف، وسيدة أنيقة تتعرف إلى أسعار النباتات، لتختار لبيتها ما يناسبها، وأخرى تسأله: أي النباتات أفضل للقبور، لأنني أريد أن أزرع تربة أمي وأبي؟
شعرت وكأنني أمام طبيب ورد وموت وحياة، وحاورته وسألته عن قصته مع هذه الطبيعة الملونة، وأجابني: عبد الرحمن خميس من قرية تنب الريف الشمالي، تعلقت بالزراعة منذ طفولتي، ورغم العشرية التي مررنا بها، لم أستطع التخلي عن عملي مع النباتات، وأرضنا على خط الجبهة مع العدو، وننتظر الفرج القريب لتعود إلينا، وأكملت تعليمي للصف السابع، لكنني من عائلة تعمل في الزراعة، وهذا مشروعي الخاص، ولدي 6 أولاد مناصفة بين ذكور وإناث، وأحد أولادي عسكري، والآخر “كهربجي” سيارات، ولدي ابنتي مصففة شعر، وأخوتنا المسيحية بالشيخ فارس يساعدوننا، سجلنا عندهم من أجل شراء بعض المواد الأساسية لتفتح ابنتي صالوناً.
ألم تسمع بقروض المشاريع الصغيرة؟
أجابني بالنفي، فأخبرته: بإمكانك الاقتراض من البنك المناسب لتدعم مشروعك أكثر.
قال: سأسأل عن ذلك، وتابع: منذ أربع سنوات وأنا في هذا المكان، وفي شهر رمضان أنا هنا منذ الصباح إلى ما قبل الفطور، ويحبني جميع أهل المنطقة، وأحبهم، وألتزم كعادتي بالآداب، وأساعد المحتاج، مثلاً، لا أسمح لشاب أن يضايق فتاة، وهذا يحدث قليلاً.
وأضاف: الحياة جميلة، مثل هذه الورود مهما حدث، والنباتات أناقة وحياة، وتقوي النظر مثل الجزر، وتنمو مع الموسيقا أكثر، ومع السلام والطمأنينة، وأحوالها مثل أحوالنا اليوم، سعيدة لأنها تشعر بالأمان رغم كل الظروف.
ضحك وأشار بلهفة إلى نباتاته وهو يسميها لي: هذه “يوغا” فرنسية، وتلك الصبار، وذاك المنثور بألوانه الزهرية والبيضاء والصفراء، وتلك الأصص زهر الهوى، والعطرية، والخوخ الإيطالي، وكل نبتة لها طريقة اعتناء خاصة.
وعن شعوره وهو يفارق إحدى نباتاته، قال: الفراق مؤلم، لكنني أعوض النبتة بأخرى، وأظل مرتبطاً بها كأنني والدها، ولا أجد حياتي جميلة ومفيدة إلاّ مع الأرض والناس والورد.
شكرته وواصلت طريقي وأنا أتأمل أشعة الشمس بين وقت العصر وآذان المغرب، كم كانت الشمس تشبه وردة عملاقة، وكل تويجة من تويجاتها بلون، بينما عطورها فتملأ حلب برائحة تأريخية عريقة لا تغيب حتى وإن غابت الشمس لتشرق في اليوم التالي.