“المقايضة”.. مبادرة هنري كيسنجر الغامضة
ريا خوري
لم يتوقف معظم المفكرين الغربيين والأمريكيين عن العمل على شحن العالم من أجل مزيد من التصعيد ضد روسيا، وعلى الرغم من كل هذا فقد فاجأ وزير الخارجية مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أقرانه وتلاميذه في مدرسة (الواقعية السياسية) بالسباحة عكس التيار بالنسبة للمستجدات والتطورات المتصاعدة للحرب الدائرة في ذلك الجانب من العالم، التي تتجه لتصبح حرباً يقودها حلف شمال الأطلسي ضد روسيا على الأراضي الأوكرانية.
لقد أدرك كيسنجر أن هذا الصراع يمكن أن يتحوّل في أي لحظة إلى حرب مباشرة بين روسيا والولايات المتحدة، بما يعنيه ذلك من احتمال اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل، وخطر ذلك على الأمن والاستقرار العالميين، لهذا بادر للدعوة إلى أن التسوية السياسية والأمنية في أوكرانيا يجب أن تبدأ خلال الشهرين المقبلين لتجنّب العواقب الوخيمة في العلاقات الدولية في عموم أوروبا.
دعوة كيسنجر جاءت في مداخلة (عبر الفيديو) شارك بها في المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس)، وفي هذه المداخلة انطلق كيسنجر من الأمر الواقع، كما هو الآن ميدانياً في أوكرانيا، عبر العمل على إعادة الخط الفاصل بين روسيا وأوكرانيا، بحيث تكون كامل حدود إقليم دونباس مع أوكرانيا هي الخط الفاصل بين روسيا وأوكرانيا، مشيراً إلى أن نتيجة الأزمة الحالية في أوكرانيا في المجالين السياسي والعسكري ستؤثر على العلاقات بين البلدين في المستقبل.
الدعوة التي نادى بها كيسنجر تنطلق في جوهرها من فكرة محورية هي جعل أوكرانيا خطاً فاصلاً محايداً بين أوروبا وروسيا الاتحادية، مؤكداً في هذا الصدد أن تحقيق الوضع المحايد لأوكرانيا وتشكيلها كجسر بين أوروبا وروسيا هو الهدف الأساسي في الوضع الراهن. أي أن العمل على تحويل أوكرانيا إلى جسر عازل ومحايد بين أوروبا وروسيا يعني الإنصات الجيد لمخاوف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخاصة برفضه جهود ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. كما أن هذه الدعوة تأتي في أعقاب بدء جهود ضمّ كلّ من السويد وفنلندا إلى “الناتو”، الذي سيحقق مكاسب استراتيجية كبيرة للحلف في مواجهة روسيا عوضاً عن ضمّ أوكرانيا لهذا الحلف. فضمّ فنلندا والسويد إلى الحلف سوف يؤدي إلى تكثيف التموضع العسكري للحلف على الحدود مع روسيا التي تمتد لمسافة تتجاوز 1360 كم بين فنلندا وروسيا، إضافة بالطبع إلى مسافة أخرى تصل إلى 1200 كم هي حدود كل من بولندا والنرويج وليتوانيا وإستونيا كدول منتمية لحلف شمال الأطلسي مع روسيا.
حتماً من جهته يدرك المستشار كيسنجر قيمة ما يمكن أن يضيفه انضمام السويد وفنلندا للحلف من قوة استراتيجية في مواجهة روسيا، وبالذات من منظور (الاحتواء) ومحاصرة روسيا داخل حدودها بسياج قويّ من دول أعضاء بالحلف. وحتماً يعرف أن قادة الحلف يعرفون ذلك جيداً، لذلك هو يرى أن ثمن التخلي عن مطلب ضمّ أوكرانيا إلى هذا الحلف يمكن أن يكون ثمناً مرضياً للطرفين الأطلسي والروسي، أي أوكرانيا المحايدة مقابل السويد وفنلندا. والسؤال الذي يفرض نفسه هل سيقبل الغرب وهل ستقبل روسيا بهذه المقايضة؟.