بحيرة البجع الحلبية
غالية خوجة
مازال الوقت خلف الريح يتلصص على المشهد، بينما الغيوم المتحاورة مع اللازورد تتشكّل لوحات إلهية، فتعبر الكائنات إلى مساراتها ومصائرها، متجاهلة أحزانها، متفائلة بيومها مهما كان بسيطاً.
الغيم بين القلعة والمدينة يشاهد معنا الناس المنشغلة بنفسها، فيواسي أم الشهيد دون أن تعلم، ويجعل الفقير ينظر إلى الوردة بين يدي بائع الورود في الحديقة، فيبتسم مستذكراً قصة حبه مع زوجته، وكيف أصبح أباً لأطفال ينتظرون عودته ليفرحهم بما يضفيه من محبة على العائلة والبيت.
الوقت يتلصص على الريح، ويقترب مع لحظاته ليجمّدها قليلاً على رجل يعبر مع حماره الذي يجر عربة خشبية متخمة بأصص الورود والشتلات المختلفة عابراً سوق التلل بين السيارات والناس.
المشهد يجذبني والقارئ، فنتخيل لو أن الفنان الروسي إيفان إيفازوفسكي الذي رسم لوحة العاصفة يمر الآن في هذه الشوارع لرسم عاصفة الورود، ولو أن الموسيقار الروسي بيتر تشايكوفسكي عبر بين أزقة حلب الأثرية القديمة لرآها تلك الأميرة التي حوّلها الساحر الشرير فون روتبارت إلى بجعة في رائعته الموسيقية “بحيرة البجع”، ولحوّل نفسه إلى بطله الأمير سيغفريد، ليطلق سهامه على جميع الإرهابيين عبر العصور.
بحيرة البجع لم تكن سوى دموع أم الأميرة التي أحبها الأمير بإخلاص وأنقذها، بينما بحيرة الأميرة في حلب ليست سوى دماء الشهداء، وهي تزهر موسيقا الخلود، وآلام جرحى الوطن، والناس البسطاء وهم يتجولون مع طيبتهم في شوارع المدينة حالمين بيوم آخر يمضي لتشرق أحلامهم الآجلة والعاجلة، فيلتقون بمن غاب في البلاد، وبمن يحبون من العباد.
ومع كل يوم راحل، تتلصص الريح على المشهد، ويتلصص الوقت على الريح، وتتلصص الموسيقا على نبضاتنا، لتمنح الشمس إشعاعاتها الجديدة، فتنمو اللحظات رغيف خبز في قلب الطفل النائم على الرصيف، ويكبر الأمان مع امرأة عجوز تتوكأ عكازها حاملة قوت يومها، بينما يمر رجل مسن مرهق يستعطف الناس، فنتساءل، أنا وأنتم أيها القراء، عن حاله: هل هو وحيد؟ أم أن أولاده وأقرباءه غادروا؟ أم أنهم موجودون، ولكن، كما تغني فيروز “ما في حدا لا تندهي ما في حدا”!.
مازالت غيوم الصيف تتلصص على المدينة، وتزور مقابرها المطمئنة بالهدوء والنسمات المتخلّلة لحرارة الشمس، ولونها الأبيض يغمز النباتات البرية لتبدو لغة سرية بين السماء والأرض، لعل من يفكّ شيفرتها يكتشف كيف تسأل أبجديتها الناس: لماذا أنتم جشعون، وتنسون أنكم ستقيمون في هذه القبور ملايين السنين؟ لماذا بعضكم لا يفكر بذاك المشرد الصغير؟ وبعضكم لا يكترث بتلك الأم التي أغمي عليها في الشارع بينما أولادها لا يحركون ساكناً؟ لكن تلك اللغة رأتني عندما اقتربت منها، طلبت لها الماء من المارة، وحين استيقظت، كان أولادها الصغار قد أخبروني بأنها داخت من الجوع، أعطيتها لوجه الله، ثم أوقفت لها سيارة أجرة، حاسبت السائق، وطلبت منه توصيلها إلى مشفى الرازي، لكنها أصرت أن تذهب إلى بيتها، وقبل أن أغلق باب التاكسي مطمئنة عليها، قالت: لا تكفي النقود ثمن “فروجة”؟!.
كأنها مضت مترين، ثم أوقفت السائق ونزلت، بينما مضيت دون اكتراث بما تفعله متسائلة: هل هناك من يصطنع الإغماء ليبتزّ الناس؟! لكن الحالات الإنسانية تفرض عليك المساهمة بما تستطيع، والمقبرة تنتظرنا جميعاً لتختتم الفصل الأخير من موسيقا حياتنا، لنرى أنفسنا وجهاً لوجه مع أنفسنا مرة واحدة، مرة أخيرة، وإلى الأبد.
ثمة لازورد نافر في لوحة موسيقية نسمعها مازال يتلصص على بحيرة البجع الحلبية تاركاً النهايات بلا نهايات.