مجلة البعث الأسبوعية

الإرهاب دمّر أكثر من ٩٠ بالمائة من المقاسم ، والنهوض من الصفر لم يكن سهلاً. في رحلة الموت … استرجاع تجهيزات بقيمة ثلاثة مليارات ليرة

البعث –  وائل حميدي

 

تُظهِر تفاصيل العمل الخاصة بفرع اتصالات دير الزور أن الحرب الحاقدة التي فُرضت على سورية فعلت فعلتها بأبشع الصور وأكثرها قساوة حين انهارت منظومة العمل من الكمال إلى الصفر، لتكون رحلة الانطلاق أشبه بنحت الصخر، وليكون احتمال الموت في رحلة استرجاع وتعويض المسروقات هو الاحتمال الأكبر ، إذ تؤكد مرحلة التوقف أن قطع الاتصال عن المحافظة كانت أول وأهم أهداف الإرهاب لعزل دير الزور عن الجغرافية السورية بالتزامن مع فقدان أكثر من 80٪ من الكادر وهذا ماضاعف المهمة وزادَها صعوبة اقتربت من المستحيل.

مدير فرع اتصالات دير الزور المهندس رمضان الضللي أفرَد في لقاء مطول مع البعث تفاصيل تلك المرحلة الصعبة التي بدأت عام ٢٠١٢ بخروج المقسم الأول (الحديث وقتها) من الخدمة بالكامل واتساع أماكن سيطرة المسلحين الذين عملوا على قطع الاتصال ضمن أجندة ارتزاقهم المأجور القاضية بتدمير كافة مقاسم الاتصالات في المحافظة ونجحوا  تماماً في ذلك إلا في المربع الآمن الذي حوصر لثلاث سنوات ليكون شبه معزولاً عن الجغرافية السورية،ومع ذلك وبفضل مساعدة الجيش العربي السوري عبر القوى الجوية بقيت الاتصالات مستمرة بعملها ضمن قدرات وتوصيف محدودَين جداً وحسب الأولويات.

 

خروج المقسم الرئيس عن الخدمة

يقول مدير اتصالات دير الزور بأن المسلحين الإرهابيين بدأوا باستهداف المركز الأول للاتصالات الذي يعتبر المركز الرئيس في المنطقة الشرقية بأكملها ، ونجحوا بإخراجه عن الخدمة نهاية عام 2012 بعدما سيطروا على منطقته، وقمنا على الفور بالاعتماد على المقسم الثاني الذي يعد مقسماً فرعياً ولم يكن مؤهلاً ليكون البديل عن المقسم المفقود وذلك عن طريق ربط الكابل الضوئي مع دمشق، وكان لابد من استرجاع التجهيزات الهامة من المقسم الأول ليتحقق هذا التبديل مااضطرنا لتكليف عناصر أكفَّاء ووطنيين من كادر الفرع ليتسللوا إلى منطقة المركز الأول في رحلة خطرة واسترجاع مايمكن استرجاعه من تجهيزات تمكننا من إحياء الاتصالات من جديد.

 

رحلة الموت التي استغرقت ثمان أيام

يقول الضللي أن تلك المهمة أشبه ماتكون برحلة الموت والحياة بالنسبة للاتصالات لأن ذلك الاختراق لبقعة انتشار وسيطرة المسلحين لايقبل بالحلول الوسطى وبالتالي هي واحدة من أهم وأصعب المراحل وتتجلى هذه الصعوبة بقطع مسافة 2 كم في طريق طوله 80 كم ليصل كادرنا إلى المقسم الأول بسبب الالتفافات الواسعة حفاظاً على سلامة الفريق ليصل إلى التجهيزات التي لايمكن تأهيل العمل في المقسم الثاني بدونها وأهمها تجهيزات ( ترانس ميشن )  والتي تمكنَّا من إخراجها من المقسم الرئيس الخارج عن الخدمة والقيام بنقلها على مراحل متتالية مابين حويجة گاطع ثم استخدام قارب نهري بسيط وصولاً إلى الضفة الثانية من نهر الفرات ثم باستخدام (الحَمير ) وصولاً إلى حدود منطقة خشام شرقي النهر ومنها إلى مدينة الميادين ومنها إلى جزرة البوحميد ثم إلى طريق الرقة دير الزور ثم إلى المربع الآمن كآخر مرحلة لوصول التجهيزات المطلوبة بعدما تم تغليفها بطريقة تمويهية ،علماً أن حجم الجهاز الواحد يعادل متراً مكعباً تقريباً وتبلغ قيمتها آنذاك 300 ألف دولار أمريكي وبالطبع قيمتها اليوم أضعاف هذا الرقم ،ومع ذلك لم تعد المشكلة اليوم بالقيمة المادية للقطعة بل بإمكانية تأمينها بحكم الحصار الاقتصادي الجائر على القطر ،ومع نجاح فريقنا في مهمته المستحلة تمكنَّا من إتمام عملية الربط الأولى مع العاصمة وبالتالي أصبح المقسم الفرعي هو المقسم الأساسي الذي أعاد للاتصالات الحياة من جديد وذلك عن طريق الربط بهواتف لاسلكية مع محطة الاتصال في محافظة الرقة التي لم تكن قد خرجت عن السيطرة بعد، وبالتالي تغير رمز محافظة دير الزور من 051 إلى 022 الخاص بالرقة وحينها زوَّدنا كافة القطاعات الحكومية بأرقام أرضية جديدة وحسب الأولوية.

نقطة ربط مخفية في الصحراء

يقول مدير اتصالات دير الزور أنه وبمساعدة الجيش العربي السوري وبالتنسيق مع الإدارة العامة والوزارة تم تأمين مقسماً محمولاً من دمشق وتم زرع ذلك المقسم في مجمع مشفى الأسد الحدودي مع مركز المدينة وفي ذلك العام لم يكن المركز أو المقسم الثاني جاهزاً من الناحية الفنية والبنيوية ليكون البديل ، وبالتالي باشرنا بتجهيزه وفق الامكانات المتاحة وبالحدود الدنيا ليكون قادراً على تفعيل الخدمة مع المقسم المحمول، ومن الناحية الفنية كان لابد من تحديد نقطة في الصحراء لتكون صلة الوصل بين دمشق ودير الزور ،وحينها كان الطريق بين تدمر ودير الزور الممتد على طول 210 كم بيد المسلحين ، لتبدأ رحلة المغامرة الثانية باستخدام سيارة ڤان نسَّقنا على أنها معطّلة ولابد من نقلها مقطورةً إلى تدمر للإصلاح ، ووضعنا فيها كل تجهيزات الربط بين دمشق ودير الزور ، وبالفعل ومع وصول الڤان إلى منطقة كُباجِب بدأنا بالبحث عن مكان آمن في تلك المنطقة بعيداً عن أعين المسلحين وفي نقطة صحراوية متطرفة نوعاً ما ،ونجحنا بالاتفاق مع صاحب دار طينية لتخصيصنا بغرفة واحدة من منزله وحينها قمنا بطمر تجهيزاتنا بطريقة  تؤمن لها عامل التبريد وبالتالي أصبحنا جاهزين لتفعيل الاتصال الذي بقي معتمداً على مركز كباجب لغاية بداية عام 2015 حين تم اكتشاف الغرفة من قبل تنظيم داعش وماتحتويه من تجهيزات ليتم قطع الاتصال من جديد مع بداية الحصار المطبق على المربع الآمن في مدينة دير الزور ولتفقد المدينة الاتصالات من جديد وبكافة أنواعها ( الاتصال والانترنت) بما فيها الاتصالات التي تخدم قطعات جيشنا العربي السوري.

ولكي يتم  تدارك هذا العزل القسري قمنا على الفور بتأمين محطة فضائية بالتنسيق مع إدارتنا العامة وبالتشارك مع شركة اتصال خلوي ، والحقيقة أن تلك الفترة سهدت تقديم عروض دنيئة لنا لقطع الاتصال الفضائي عن دير الزور وكان ردنا واضح ( الوطن لايُباع )، وبالفعل بقيت وتيرة العمل الفنية معتمدة على المحطة الفضائية لغاية تحرير دير الزور عام 2017 وحينها اكتشفنا أن تنظيم داعش قام بتدمير كامل الأبراج التابعة لنا ، ومع بدء التحرير باشرنا العمل من جديد لإعادة العمل بالاعتماد على الكابل الضوئي وهذا ماتم خلال خمسة أشهر فقط رغم صعوبة ظروف العمل واستحالة تنفيذها في صحراء تحتوي على كل الخطر مع كل خطوة فيها، ومع ذلك تمكنَّا من إتمام عملية الربط الضوئي لتعود خدمة الانترنت من جديد، علماً أن هذا الإنجاز تم بالاعتماد على كوادرنا الفنية القليلة والذين لم يتجاوز عددهم العشرة أشخاص من أصل كامل كادر فرع الاتصالات البالغ عدده وقتها 35 عاملاً بعدما كان كادرنا قد وصل تعداده إلى 1500 عام 2011 .

 

خطوة بخطوة مع مراحل تحرير المحافظة

 

يقول مدير اتصالات دير الزور المهندس رمضان الضللي أنه ومع منتصف الشهر التاسع من العام 2017 بدأت قطعات جيشنا العربي السوري بالتحرك نحو المحافظة لتحريرها من الإرهاب ضمن خطة عسكرية دقيقة وعلى أكثر من محور، وكان لابد من مرافقته نحو التحرير كونه سيدخل إلى مناطق تم استهداف كامل قطاع الاتصالات فيها وذلك لتأمين هذا الاتصال أولاً بأول ولإعادة الحياة إلى مقاسمنا كي تعود إلى الخدمة في مناطق كانت خارج السيطرة لسنوات ، وبالفعل تقدمت قطعات جيشنا الباسل وكانت أول مهامنا تأمين الاتصالات في تلك المناطق التي غابت عنها الخدمة وذلك عن طريق تأمين مقسم متنقل في عربة ، وخلال تلك الفترة تقدم الجيش باتجاه مدينة الميادين عبر المحور الصحراوي وتم تحريرها لنتمكن ولأول مرة منذ عام 2012 من زيارة مقاسمنا في تلك المنطقة واسترجاع ماتبقى فيها من تجهيزات ومجموعات توليد التي كان غالبيتها معطوباً تماماً لذا استخدمناها كقطع تبديل للأجهزة المتوفرة لدينا، ومع تحرير الميادين تحرك الجيش التفافاً عبر الصحراء باتجاه مدينة البوكمال الواقعة بالكامل تحت سيطرة المسلحين ، وكان محور الحركة  نحو مفرق المحطة الثالثة ومنها إلى الثانية  ومنها إلى عمق مدينة البوكمال، وهذه المسافة تتجاوز 450 كم في طريق التفافي بينما لايتجاوز الطريق بين مدينتي الميادين والبوكمال المائة كيلو متر، ومع وصولنا إلى البوكمال قمنا فوراً بإعادة تفعيل الاتصال وتبين لنا أن حجم الدمار الذي لحق بمقسمنا فيه كان كاملاً، ومع ذلك بدأنا على الفور بتأمين المحور المكروي بين دير الزور والميادين والبوكمال ، وهنا لابد من الحديث عن المقاسم المنتشرة في هذه المدن وأريافها حيث تبين لنا تدمير كل من مقسم مدينة موحسن بالكامل وكذلك قرية البوليل، ومقسمَي سعلو وبقرص المتاخمَين لمدينة الميادين ، وعلمنا من الأهالي حينها أن المسلحين قاموا بتدميرها قبل انسحابهم من تلك المناطق، وبناءً عليه قمنا بإنشاء غرف مؤقتة بديلة عن المقسم المدمر في البوكمال، ونجحنا بإعادة تشغيله بالاستفادة من التجهيزات التي استطعنا استرجاعها ، علماً أن عدد المقاسم بين مدينة دير الزور والبوكمال وصل إلى 22 مقسماً وكلها في عقارات تابعة للفرع من حيث الملكية وجميعها تم تدميرها وبنسب متفاوتة ، وهنا دخلنا في مرحلة إعادة تدوير الأجهزة والاستعانة بالإدارة العامة لتزويدنا بما يلزم من قطع لم نعثر عليها بين أنقاض مقاسمنا المدمرة، وبهذه العملية تمكنا من تأهيل العديد من الأجهزة، فيما قمنا بتأمين ماتبقى من الأجهزة المعطوبة  لتكون بمثابة قطع تبديل بعدما تم إبلاغ إدارتنا بكامل هذه التفاصيل وماتم استجراره وماهو حجم الخسائر .

توسيع الخطوط الأرضية والانترنت من جديد

بعد بدء تعافي قطاع الاتصالات وإعادة تفعيل الخطوط الأرضية للمشتركين والتوسع في ذلك بلغ عدد الخطوط الأرضية 30 ألف مشترك ، وبلغ عدد بوابات الانترنت 13 ألف بوابة ، فيما سيَصِلنا بالاعتماد على العقود الجديدة 500 بوابة لصالح منطقة الميادين ، ومثلها للبوكمال، إضافة ل 1000 بوابة في حي هرابش و 3000 لصالح المقسم الثاني، علماً أن عدد البوابات التي تم تقديم طلب عليها بلغ أكثر من 8000 بوابة قمنا بتأمين 4500 منها لغاية اليوم ضمن خطة التركيب وحسب أولوية التقديم ، ومن المأمول أن يصلنا قريباً  3000 بوابة جديدة وهذا ماسيرفع من نسبة تنفيذ البوابات لصالح المتقدمين لها من المشتركين.

 

معوقات عمل

وعن الصعوبات التي يعاني منها فرع دير الزور للاتصالات يقول مدير الفرع بأن قلة المقاسم هي أكبر معوقات العمل، ومع عودة الأهالي إلى مناطقهم المحررة باتت الحاجة لمقاسم إضافية ملحة جداً حيث يلزمنا في الوقت الحالي تركيب مقسم ضمن المناطق المتسعة جغرافياً ومنها موحسن والبوليل ومحگان كأولوية أولى ، وخير دليل على حاجتنا الماسة لتطوير المقسم الثاني على سبيل المثال والمزيد من مراكز الاتصال التذكير بأن عدد الخطوط الأرضية في المدينة عام 2011 وصل إلى 75 ألف ، بينما هي اليوم 29 ألف فقط ،  فيما بلغ عدد الخطوط الأرضية في كامل المحافظة عام 2011 حوالي 165 ألف خط بينما هو اليوم أقل من 55 ألف خط أرضي.

 

كوادر متسربة وآليات مفقودة قيمتها 15مليار ليرة

وعن الكوادر العاملة يقول المهندس رمضان الضللي بأن العدد الإجمالي حالياً بلغ 400 موظف فقط بين إداري وفني وسائق وغيرهم، بينما بلغ عدد كادرنا عام 2011 أكثر من 1500 موظف ، وبالتالي فقدنا أكثر من 65٪ من كوادرنا وبالأخص الفنيين الذين يبلغ عددهم اليوم حوالي 60 فنياً، بينما كان عددهم عام 2011 أكثر من 500 عامل فني، وفي هذا الإطار قمنا بمراسلة الإدارة العامة ومنها إلى الوزارة التي أبدت كامل الاستعداد لتعيين فنيين لدينا ، غير أن المشكلة باتت بمن يقبل بالتقدم للعمل وليس بموافقة الإدارة العامة أو الوزارة التي تحرص على سد هذا الخلل، ومنها على سبيل المثال المسابقة المركزية الأخيرة والتي خصصتنا ب 14 عاملاً فنياً وهو عدد لابأس به ، ومع ذلك لم بتقدم للمسابقة سوى نصف هذا العدد ممن تنطبق عليهم شروط التقدم لها.

أما عن الآليات فقد وصل عدد الآليات التابعة لفرعنا 189 آلية بمختلف أنواعها وءلك عام 2011 ، بينما هي اليوم 28 آلية فقط ، والفارق بين الرقمين يوضح معاناتنا الكبيرة حيث تعرضت آلياتنا خلال الحرب الحاقدة للسرقة والتدمير والحرق الممنهج ، علماً أن قيمة الآليات المفقودة قد يصل إلى 15 مليار ليرة سورية وفق السعر الحالي، وهذا مؤشر جديد لحجم خسائر الدولة خلال الحرب .