الأزمة الاقتصادية العالمية… لعبة إلقاء لوم سخيفة
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
يتفق الجميع على أن العالم يمر بوقت عصيب بالغ في التعقيد نتيجة التأثير الاقتصادي العالمي للتضخم الجامح في أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، كما أن إنعدام الأمن الغذائي والجوع اللذين يؤثران على سكان هذا الكوكب بدون استثناء، هو مصدر قلق ذي أولوية، وليس فقط للدول ذات الدخل المنخفض والمتخلفة، بل لجميع دول العالم. فقد وصل الفقر إلى مستويات قياسية حتى في الدول “الغنية”، حيث يجد العديد من المواطنين صعوبة في إطعام أسرهم. أما في باقي الدول فهو أكثر من كارثي، حيث لا يعاني السكان فقط من تداعيات الأزمة الإقتصادية العالمية، بل يضاف إليها تبعات وأثار الحصار والعقوبات الغربية الجائرة.
كل هذه الماسي والمعاناة ترجع أسبابها إلى فشل النظام الإقتصادي الغربي التاريخي، حيث بات ينظر إلى نظام الربح الخاص على حساب الإحتياجات البشرية على أنه بات غير ملائم على الإطلاق وعفا عليه الزمن، وأصبح من الواضح أنه يعّرض الناس عمداً للفقر والأزمات، مما يجعله أكثر إدانة ويتحمل المسؤولية الكاملة عما يجري الآن.
لقد خلقت رأسمالية الشركات المشاكل الرهيبة التي تواجه الكوكب، وهي تعمل على تفاقمها بدلاً من التخفيف من حدتها. وبالإضافة إلى الإخفاقات الاقتصادية المتأصلة في النظام الغربي، هناك الفشل الذريع للسياسات القائمة على الأيديولوجيات. وعليه، فقد تم تكثيف الأزمة الاقتصادية الحالية المتزايدة بسبب خيارات سياسية محددة اتخذتها الحكومات التي تسيطر عليها الشركات والبيروقراطيين غير المنتخبين، والذين يتقاضون أجوراً باهظة على حساب الطبقات الأخرى، وما يثير السخرية أن القادة الغربيين السيئين يحاولون إلقاء اللوم على روسيا. حتى أن العجوز جو بايدن أطلق اسم التضخم على اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ووصف إرتفاع أسعار المستهلكين بأنه “ارتفاع بوتين للأسعار”، في محاولة لإيهام العالم و الشارع الأمريكي أن روسيا هي المسؤولة عن هذه الأزمة.
وبحسب محللين غربيين، هي لعبة إلقاء لوم سخيفة لا يوافق عليها الأمريكيون والمواطنون الغربيون الآخرون، ومن الواضح أن الولايات المتحدة كانت تجلس على قنبلة موقوتة تضخمية لعدة سنوات بسبب سوء سياساتها المالية القائمة على طباعة كم كبير من النقود وإساءة استخدام الإمتيازات العالمية للدولار بشكل تعسفي كعملة احتياطية أساسية. وبالتالي، وبحسب هؤلاء المحللين، فقد أدى تراكم الديون الوطنية الأمريكية، التي تبلغ اليوم ما يقرب من 30 تريليون دولار وأكثر، والتجاوزات الهائلة في الإعانات المقدمة للشركات والبنوك، إضافة الى المليارديرات، كل ذلك أدى إلى فوضى اجتماعية بسبب عدم المساواة وتفشي الفقر المدقع.
واليوم تشهد أوروبا عملية انحطاط للرأسمالية النيوليبرالية، لتضاف إلى المشاكل التي تسببها أوروبا نفسها من خلال التخريب المتعمد لعلاقات الطاقة مع روسيا اذعاناً لأوامر واشنطن، حيث يواجه الاتحاد الأوروبي دوامة تضخمية بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وينتج هذا الوضع بدوره عن التدمير الذاتي لتجارة الطاقة مع روسيا أكبر شريك لأوروبا، حيث أشار مركز الأبحاث “بروغل”، ومقره بروكسل إلى أن تضخم الأسعار العام يؤثر على أوروبا أكثر مما يؤثر على الولايات المتحدة، لأن أوروبا تعتمد بشكل أكبر على موارد الطاقة الروسية. لذلك فإن قرارات معاقبة روسيا من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، هي قرارات أيديولوجية بحتة، تتخذها طبقة سياسية آخر همها تأثير هذه العقوبات على مجتمعاتها. بمعنى آخر، هناك سوء إدارة من قبل نخبة غير ديمقراطية، وإلقاء اللوم على روسيا هو شكل معيب للهروب من آثامها.
لقد فرضت المجموعات الحاكمة الغربية عقوبات غير قانونية على روسيا في محاولة لخنق اقتصادها، فأضرت هذه الحرب الاقتصادية بقدرة روسيا على إمداد العالم بموادها الخام الوفيرة للطاقة، بالإضافة إلى إمداداتها من الحبوب والأسمدة المعدنية. كل هذا كان له تأثير متوقع في تفاقم تضخم أسعار المستهلك، وهذه نتيجة طبيعية كون الاقتصاد العالمي مترابط بشكل واضح. ومع ذلك، إما أن النخب الغربية فشلت في رؤية عواقب سياساتها العدائية، أو أنها تتظاهر بالجهل بمحاولة إلقاء اللوم على روسيا الآن، وعلى رأسها قادة الاتحاد الأوروبي تشارلز ميشيل رئيس المجلس الأوروبي الذي اتهم روسيا باستخدام “الغذاء كسلاح”، و أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية التي كان لديها الجرأة لدرجة الوقاحة على الادعاء بأن “الكرملين يستخدم الطعام كجزء من ترسانته”.
هكذا استخدمت واشنطن وأتباعها الأوروبيون العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كذريعة لتكون أوكرانيا كبش فداء لأمراض ومصائب العالم، اذ تحاول النخب الغربية جعل الأمر يبدو كما لو أن هذا الصراع قد تسبب في نقص حاد في القمح والحبوب الأساسية الأخرى، وتتهم روسيا بإغلاق الموانئ البحرية الأوكرانية، في حين أن الحقيقة هي أن النظام المدعوم من حلف شمال الأطلسي في كييف قد منع الشحن عن طريق زرع الألغام المتفجرة على طول سواحلها وموانئها، وكييف ترفض إزالة الألغام من الممرات البحرية للشحن المدني. فإذا أراد النظام الأوكراني تصدير الحبوب، فيمكنه القيام بذلك اقتصادياً عبر الطرق البرية إلى بيلاروسيا، ولكن هذا الخيار مستبعد لأن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على بيلاروسيا، كما فعل مع روسيا، وهنا يتجلى مظهر آخر من مظاهر سياسات التدمير الذاتي.
بناء على ما تقدم، فإنه لمن العبث اتهام روسيا بالمسؤولية عن الأزمة الاقتصادية العالمية، ولا سيما أزمة الغذاء التي تلوح في الأفق، فقد كان من الممكن تجنب الحرب في أوكرانيا لو كانت الولايات المتحدة وشركاؤها في الناتو قد انخرطوا ببساطة في دبلوماسية معقولة مع روسيا لمعالجة المخاوف الأمنية المبررة، ولكن رفض الأمريكيون ووكلائهم الأوروبيين أي دبلوماسية من هذا القبيل، لأن أجندتهم مدفوعة بالعداء وطموحات الهيمنة المشكوك فيها. بكل الاحوال فإن الصراع في أوكرانيا ليس سوى جانب واحد من جوانب الانهيار العام الناجم عن فشل الغرب المزمن والمستمر.
كما أن سبب التوتر العالمي الحالي متجذر في النظام الاقتصادي الغربي وإثارة الحرب الإمبريالية ضد روسيا، بالإضافة إلى “أعداء آخرين” وعلى رأسهم الصين وإيران وفنزويلا وسورية وكوريا الديمقراطية وكوبا ونيكاراغوا، من بين دول أخرى. أليس تحديد هؤلاء “الأعداء” بحد ذاته دليلاً على سخافة وعدم شرعية الأنظمة الإمبريالية الغربية؟. ربما تكون الشهادة الأكثر إدانة للفساد وسوء الإدارة هي الموارد الهائلة (بلايين الدولارات واليورو) التي تُهدر حالياً على الأسلحة العسكرية التي ترسلها واشنطن وأتباعها الأوروبيين لدعم النظام النازي في أوكرانيا.
حقيقة، لا تقتصر العواقب على الاضطرابات الاقتصادية والجوع في العالم، بل تقود الرأسمالية الغربية العالم إلى حرب وربما حريق نووي. هذه الرأسمالية المتعجرفة بقيادة الولايات المتحدة لا تريد عالم قائم على العلاقات السلمية والإنسانية والأخوية، وانما تريد عالماً يمضي تحت إمرتها هي فقط في ظل حكم الخلل الوظيفي، رغم أن الحقيقة صارخة في عيون العالم، ولا يمكن أن تخفيها كذبة النخبة الغربية أو كبش الفداء الذي ضحت به.