مجلة البعث الأسبوعية

هل سيرفض “الجيش الاقتصادي” التعهد بإعادة قطع التصدير؟ وإلى متى الصمت على من يستنزف الوطن والمواطن؟

البعث الأسبوعية – علي عبود

لم يستجب التجار حتى الآن لتحديد موقفهم الفعلي وليس “الكلامي” من معارك سعر الصرف، فلماذا؟

لقد أكد السيد الرئيس بشار الأسد خلال ترؤسه جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 30 آذار الفائت أن معركة سعر الصرف لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية لاستقرار البلد؛ وبما أن غرفة تجارة دمشق سبق وأن وصفت التجار منذ عدة سنوات ب- “الجيش الاقتصادي”، فهذا يعني أنهم معنيون مباشرة بمعارك سعر الصرف وباستقرار البلد، فهل تورط كبار التجار بمعارك سعر الصرف بما أدى إلى ارتفاعات جنونية في الأسواق والأسعار؟

لقد أشار الرئيس الأسد إلى اتخاذ الحكومة إجراءات في معركة سعر الصرف “تمكنا فيها من تحقيق إنجازات لم تتحقق سابقا”، لافتا إلى أنه من الخطأ في مثل هذه الحالة، أو هذا النوع من المعارك، أن يعتقد الناس أن هذا الموضوع هو موضوع إجرائي.. إذ أن الموضوع أوسع.. حيث هناك مضاربون ومستفيدون.. وهناك معركة تقاد من الخارج”.

ونسأل مجددا: ما موقف، بل ما إحراءات كبار التجار ورجال المال في تقديم العون أو الانخراط بفعالية في معارك سعر الصرف- بما يساهم باستقرار البلد؟

ونحن هنا نتحدث عن نوعين رئيسيين من التجار: نوع يخاف على الوطن ولا يتردد بتنفيذ كل ما من شأنه المساهمة بمعركة استقرار سعر الصرف، أي هو فعلا عنصر في “الجيش الاقتصادي”، ونوع يستغل الأزمات ويستثمر في الحصار والعقوبات ويضارب بالعملات وينخرط بعمليات تهريبها للخارج .

وقد يكون هناك نوع ثالث تحدث عنه الرئيس الأسد بقوله: “إن ارتفاع سعر الصرف صباحا لا يبرر ارتفاع الأسعار مساء.. هذه نقطة أساسية لا يمكن تبريرها ولا يمكن القبول بها.. وهذه اللصوصية يجب التعامل معها بشكل حازم”.

مهما كان موقف التجار الحقيقي من معارك الصرف، فقد برهنوا مؤخرا في قضية “تعهد إعادة التصدير” أنهم ضد أي إجراء يساهم بتخفيض سعر الصرف واستقرار البلد، مثلما هم ضد الجمارك وضد فوترة وأتمتة النشاط التجاري وتسديد الضرائب لخزينة الدولة، وكأنّهم يقولون للحكومة: نرفض تنفيذ أي قرار أو إجراء يمنعنا من استنزاف العباد والبلاد!

 

ماذا يفعلون بقطع التصدير؟

المنطق يقول: أن التجار الذين يحولون قيمة مبيعاتهم اليومية إلى دولارات لتهريبها إلى الخارج لن يعيدوا دولارا واحدا من صادراتهم إلى سورية، ولو توقفوا عن المضاربة بالليرة فقط لما هبت الأسعار، ولو وضعوا جزءا من دولاراتهم في المصارف لكانوا لعبوا دورا فعالا في استقرار البلد، فماذا يفعل التجار بدولارات صادراتهم؟

نظريا.. يمولون بها مستورداتهم، كما كان يحصل في تسعينيات القرن الماضي (تمويل المستوردات من حصيلة دولارات التصدير)، لكنهم لن يفعلوها لأنهم يعتمدون على دولارات المركزي غالبا، أو شراء الدولار من السوق السوداء لتمويل مستورداتهم المختلفة؛ وما يحصل أن الغالبية العظمى منهم تعمل على تهريب الدولارات أو الاحتفاظ بها في خزائنهم، وليست على استعداد لإعادة دولار واحد إلى سورية. والحملة الأخيرة ضد العمل بقرار “تعهد إعادة قطع التصدير” تؤكد أنهم مع تهريب الدولارات، وليس مع إعادتها إلى البلد حتى لوتعرضوا لخسائر جسيمة، كما حدث مع ودائعهم في لبنان!”.

 

تعهد القطع لن يرفع تكاليف المنتج

أحد التبريرات ضد قرار تعهد القطع أنه يرفع تكاليف المنتج، ويفقد المنافسة بالأسواق الخارجية.. فهل هو تبرير صحيح؟ والملفت أن غرف التجارة لم تتحدث عن إيجابية واحدة للقرار.. فلماذا؟

بل لماذا الجزم: من الضروري عدم إعادة قطع التصدير!

نعم، ليس من الضروري إعادة القطع لو أن التجار يمولون بها مستورداتهم بدلا من استنزاف دولارات المركزي والمضاربة في السوق السوداء!!

وتشجيع الصادرات يكون بحصر تمويل المستوردات من قطع التصدير، لا بقطع المركزي والسوق السوداء؛ وطالما أن التاجر يمول مستورداته عبر أقنية سهلة وسريعة، فإنه لن يهتم بالصادرات إلا إذا كانت أيضا سهلة ومطلوبة، فهو يستثمر في أسواق جاهزة، ولا يبذل جهدا بفتح أسواق جديدة للمنتجات السورية.

وحتى “تجارة المقايضة” مع دول صديقة وحليفة أهملها التجار لسبب وحيد أنها لا تدر عليهم الدولارات!

والملفت أن التجار تحدثوا عن كلفة إعادة تعهد القطع ما سيؤثر سلبا على دعم التصدير، وهذا غير صحيح، لأن الكلفة أقل، أو تساوي كلفة تهريب الدولار إلى الخارج.

وبدلا من التذاكي واستغباء العقول، فإن عملية تحويل الدولارات إلى الداخل سهلة جدا، وبلا تكاليف عالية كما يزعم التجار!! والكثير من المغتربين يقومون بإيصال دولارات إلى ذويهم عن طريق أشخاص مقيمين في سورية لهم شبكات معارف في الخارج، وخلال اليوم نفسه يقوم المغترب بتسليم المبلغ إلى شخص هناك ليستلمه قريبه من شحص هنا!! ونجزم بأن التجار لديهم شبكة محكمة لتحويل الدولارات – ذهابا وإيابا – بتكلفة ليست عالية، والمسألة انهم يرفضون أن يصل دولار واحد إلى المركزي بالسعر الرسمي، لكنهم “يستشرسون” لتمويل مستورداتهم بالسعر الرسمي، وبيعها بالسعر الأسود. والتبرير بأن الصناعي يصدر بربح قليل غير مقنع، لأن الصناعيين في جميع الدول تصدر بربح قليل إذا كان للمنتجات بدائل منافسة، لكن سورية تشتهر بمنتجات حصرية، أو غير قابلة للمنافسة. ولوكان التجار حريصين على زيادة حركة الأسواق، داخليا وخارجيا، لما تورطوا في معارك سعر الصرف، وأضعفوا القوة الشرائية لملايين الأسر السورية، بل وكانوا عونا قي تفعيل العقوبات بدلا من أن يساعدوا في استقرار البلد.

 

التجربة لم تكن فاشلة

ويزعم التجار أن تجربة إعادة القطع ثبت فشلها في الفترة الماضية، وعليه تم إلغاؤها، فهل هذا الزعم صحيح؟

لو كانت تجربة “التعهد بإعادة قطع التصدير” فاشلة لما استمرت أكثر من عشرين عاما. وصحيح أن التجار كانوا ضدها وتحايلوا عليها كثيرا، لكن التشدد بتطبيقها أتاح للدولة احتياطيا كبيرا من العملات كان من أبرز ثماره استقرار سعر الصرف ودعم الاقتصاد الوطني.

وأكثر من ذلك، لم تلغ حكومة 2003 – 2010 قرار “إعادة القطع”، عام 2009، لأنه فاشل، وإنما لأنها كانت منخرطة بتطبيق اقتصاد السوق الليبرالي، فأهملت القطاعات الإنتاجية لتحويل الاقتصاد الوطني إلى ريعي، كانت أخطر نتائجه الكارثية تحويل سورية من مصدر إلى مستورد للقمح منذ عام 2008.

والكثير مما نعانيه اليوم سببه حكومة (2003- 2010) ومنها إلغاء “التعهد بإعادة قطع التصدير”، وقرار “تمويل المستوردات من حصيلة قطع الصادرات” الذي كان ضربة موجعة لليرة ونزيفا لاحتياطي القطع الأجنبي.

وبعد أن كان القرار يلزم التجار بإعادة قطع التصدير بنسبة 100% في عز الحصار الاقتصادي على سورية، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، انخفضت النسبة إلى 50% بعد وصول سورية إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي في الكثير من السلع والمواد، وبخاصة القمح والغذاء. ومع زيادة تحسن الإنتاج والإحتياطي من القطع و”صفر مديونية”، انخفضت النسبة إلى 10%، وكان هذا القرار خطأ بخطأ، لأنه كان سببا بتهريب مليارات الدولارات إلى لبنان والخارج.

حسنا.. بعد الحرب الإرهابية على سورية، منذ عام 2011، وبعد الحصار والعقوبات، نرى أن من واجب الحكومة التي تدعم القطاعات الإنتاجية أن تدير حصيلة صادراتها لا أن تستمر بترك التجار بالاحتفاظ بها في المصارف الخارجية.

 

من فعل أيديهم

لو استعرضنا أفعال كبار التجار وحيتان المال، منذ عام2011، لاكتشفنا بسهولة أنهم لم يقدموا اقتراحا واحدا من شأنه مساعدة البلاد والعباد، بل كانوا يتباهون بأنهم “جيش إقتصادي” وفر السلع والمواد على الدوام، فهل فعلوا ذلك كرمى لعيون الوطن والمواطنين، أم لشفط المليارات من خلال الاستثمار في الأزمات؟

ومن يرفع الأسعار مساء لمواد استوردها منذ أشهر لأن سعر الدولار ارتفع في الصباح، هل هو تاجر في جيش اقتصادي، أم لص؟

لنستعرض ما قام به كبار التجار وحيتان المال:

– تهريب مليارات الدولارات إلى لبنان التي خسروا معظمها لاحقا لأنهم رفضوا وضعها في المصارف السورية لدعم سعر صرف الليرة.

– المضاربة اليومية على الليرة، ما تسبب بإضعاف قوتها الشرائية وإفقار ملايين الأسر السورية.

– رفع جنوني للأسعار إلى حد حرمان موائد ملايين السوريين من أكلات كانت على مر العقود الماضية شعبية.

– تهريب الكثير من السلع ومن دول معادية ساهمت بالإضرار بالمنتج المحلي، وتحديدا تركيا.

– التركيز على المستوردات المستنزفة للقطع، وإهمال التصدير المدر للقطع، وبخاصة إلى الدول الصديقة والحليفة.

– عدم تصدير منتجات المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر المنافسة بالجودة والسعر.

– عدم تفعيل تجارة المقايضة التي لا تستنزف دولارا واحدا من احتياطي القطع، وتضعف الحصار والعقوبات.

وطبعا، القائمة تطول بأفعال كبار التجار وحيتان المال التي ألحقت الأذى بالاقتصاد الوطني وأفقرت ملايين الأسر السورية.

 

مطالب بلا التزامات

ومن الملفت أن ما من اجتماع لغرف التجارة إلا وتتصدره مجموعة كبيرة من المطالب للإيحاء بأن الحكومة مقصرة، وهي المسؤولة عن ارتفاع الأسعار وضعف القدرة الشرائية لليرة. ومن أبرز هذه المطالب تخفيض الضرائب والرسوم المفروضة عليهم، وكأنهم يسددون التزاماتهم الضريبية في أوقاتها دون أي تأخير. وها هو وزير المالية يؤكد مؤخرا وجود تهرب ضريبي كبير، فالكل متهرب ضريبيا، لافتا إلى وجود احتراف في التهرب الضريبي!

وعندما يتعلق الأمر بالتزامات التجار ودورهم فيما يتعرض له البلد وما يعانيه الناس فإنهم يكتفون بتقديم الوعود أوربط تنفيذها بتحقيق مجموعة من المطالب!

آخر وعود التجار إعلان غرفة تجارة دمشق أنها ستقوم بجولةعلى الأسواق لتطلب خلالها من التجار تخفيض الأسعار بشكل ودي لا قسري، ومثل هذه الوعود تتكرر مع كل هبة جنونية للأسعار.

وحسب البعض، فإنه لا يمكن لأي جهة رسمية أو غير رسمية ضبط الأسعار على المدى البعيد، في ظل الفلتان الكبير في الأسعار؛ وهو فلتان تسبب به التجار لأنهم يقومون بتسعير المواد وفق تكاليف أسعار الصرف في السوق السوداء، والكل يعرف أن كبار التجار هم أبطال السوق السوداء!

والسؤال: ما مبرر التجار لتسعير منتجات محلية ومواد غذائية مصنعة في سورية وفق سعر الصرف في السوق السوداء؟!

 

مبررات وهمية

نعترف بأن تفعيل قرارا “إعادة قطع التصدير” سيشكل ضربة مؤلمة للتجار الذين كانوا يتصرفون بدولارات التصدير بما يؤذي الوطن والمواطن. ولقد استنفرت غرف التجارة في المحافظات، وأوحت بأن القرار “شر مستطير” سيزيد تكاليف السلع بما لا يقل عن 40% بسبب الأعباء المالية المترتبة على عملية إخراجه في ظل العقوبات، ولكن الكل يعرف أن كبار التجار وحيتان المال لا يحتفظون بحصيلة مبيعاتهم بالليرة، وإنما يحولونها في نهاية كل يوم إلى قطع أجنبي يهربونه للخارج بأساليب يستحيل ضبطها بالجرم المشهود، لأنها تتم عبر شبكة مغلقة. وإذا كانت لعمليات تهريب القطع تكلفة عالية فإنهم يستردونها سريعا من المستهلك، وحتى الضريبة التي يتهربون من دفعها يدخلونها في حساب تكاليف منتجاتهم!

وقبل العقوبات، عندما كان تحويل القطع إلى المصارف السورية متاحا، لم يستخدم التجار قطع التصدير لتمويل مستورداتهم، بل كانوا يفعلون العكس، أي تهريب الدولارات إلى الخارج، فهل سيفعلونها الآن؟! لقد اقترحت غرفة تجارة حمص أن يتعهد التاجر بإعادة القطع على شكل مستوردات، وهو مقترح جيد لو أن التجار لا يضاربون بالليرة، ولا يتلاعبون بسعر الصرف، ولا يهربون دولاراتهم إلى الخارج بأساليب ملتوية!

 

الرفض القاطع

وبانتظار القرار النهائي للحكومة، فإن غرفة تجارة دمشق لم تتردد ثانية واحدة برفض قرار “إعادة قطع التصدير” لأنه – برأيها – “يسيء لعملية التصدير بشكل كبير، فهو يزيد الكلفة على الصادرات المتعبة والمنهكة بالأساس، لأن القيمة التي سيقدّمها المركزي – مهما علت – لن تكون كالسعر الموازي، فأن يتمّ إعادة القطع مقابل 1200، أو حتى 2500 ليرة، فهذا يعتبر دمارا للصادرات”!

وطبعا، لم تقدم الغرفة – كعادتها – أي مقترحات لبدائل القرار، وهي تريد فقط تمويل “المركزي” لمستوردات التجار بالسعر الرسمي، واحتفاظ التجار بحصيلة قطع التصدير في الخارج، وحساب التكاليف وفق سعر السوق السوداء، حتى لو كان المنتج محليا 100%، وتحويل مبيعات التجار إلى دولارات للاحتفاظ بها أو تهريبها للخارج.

ويوحي التجار أن المستفيد الوحيد من القرار هو المصرف المركزي، وهذا غير صحيح، فالمستفيد هو المواطن لأن استقرار سعر الصرف يعني انخفاض ثم استقرار أسعار السلع والخدمات. وإذا كان التاجر سيعيد استخدام القطع الذي أعاده بتمويل مستورداته فماذا يهمه أن كان سعر الصرف بالرسمي، أم بالموازي، أو بالأسود، إلا إذا كان سيستخده في المضاربة؟

 

بالمختصر المفيد

كان قرار إعادة قطع التصدير، وحصر تمويل المستوردات من حصيلة قطع التصدير، تجربة ناجحة في ظل العقوبات المفروضةعلى سورية في ثمانينيات القرن الماضي. وبما أن التجار لا يحتفظون بحصيلة نشاطهم في سورية بل يحولونها إلى دولارات لتهريبها للخارج، فإن تفعيل قرار إعادة قطع التصدير أكثر من ضروري.. والسؤال: هل ستتراجع الحكومة أمام التجار، كما فعلت في الفوترة والأتمتة؟