مجلة البعث الأسبوعية

بين السياسي و”البلطجي” حين يغلب الطبع التطبّع

البعث الأسبوعية- أحمد حسن

منذ أيام قليلة جمعت طهران، في قمتها المفصلية إقليمياً وعالمياً، كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان وبالطبع الإيراني إبراهيم رئيسي، للبحث -والاتفاق كما هو مفترض- بعناوين رئيسية منها سورية وأمنها واستقرارها ووحدة أراضيها وسيادتها الكاملة عليها، ومنها المنطقة وهمومها ومشاكلها وضرورة معالجتها بالحوار والتشبيك والدبلوماسية، ومنها، الحرب الأوكرانية ومستقبل العالم، ومنها بطبيعة الحال، العلاقات الثنائية بين كل بلد وآخر والتي لن تأخذ مجالها الأوسع والطبيعي ما لم يتم حل كل القضايا السابقة، أو على الأقل الاتفاق على طريقة مقاربتها، بالشكل الأنسب ووفق الشرعية الدولية ومبادئ حسن الجوار، وقد صدر بصدد ذلك كله من كواليس القمة وتصريحات قادتها ما يؤكد اتفاق ما بين أطرافها، وإن على مضض من بعضهم، على ما سبق بالمجمل.

لكن.. البلطجي!!

لكن، وفيما توجهت الدبلوماسية الإيرانية بعد نهاية أعمال القمة للعمل حثيثاً مع الجميع لترسيخ وتوسيع نتائجها، واتجه رأس الدبلوماسية الروسية الوزير سيرغي لافروف إلى أفريقيا للأمر ذاته، ولأمور أخرى خاصة ببلاده أيضاً، عاد الطبع الأردوغاني ليغلب التطبّع، فقبل أن يجف حبر البيان الختامي كان رأس “دبلوماسيته” -إن وجدت نظرياً- “جاويش أوغلو” يضرب، بأوامر رئاسية طبعاً، عرض الحائط بالتزامات بلاده في القمة، ويعود بها للدور الوحيد الذي يعرفه رئيسها، “بلطجي” المنطقة، الذي “لا يطلب الأذن مطلقاً” ليعتدي، بحجة محاربة الإرهاب، على سيادة دولتين جارتين، ويرتكب مجزرتين مروعتين ومتلاحقتين بحق المدنيين، إحداهما في “دهوك” العراقية والأخرى في “السقيلبية” السورية، متجاهلاً تحذير نظيرَيه، الروسي والإيراني، من أن أي عملية عسكرية ستُلحق ضرراً بأطراف مختلفة في المنطقة، وهذا ما حصل فقد عادت أجواء التوتر وأصوات الرصاص لتسمع في المنطقة وبالتالي عادت قوافل الشهداء الأبرياء، وكأن لا اتفاقاً حصل ولا تعهد كتب.

والحق فإن “البلطجي” الذي لا يعرف حياة خارج هذا الدور، تجاهل أيضاً حقيقة سياسية تتعلق به شخصياً، وتقول مفرداتها إن آخر ما يحتاج إليه حالياً هو أزمة جديدة “تنغّص عليه جهوده للفوز بالسباق الرئاسي القادم في تركيا”، لكنه، وعلى عادة أمثاله، لا يستطيع ولا يفهم إلا منطق القوة لذلك يعتقد أن الظهور بمظهر القوي هو من سيحقق له حلم السلطنة الأبدي، متجاهلاً أن القوة سيف ذي حدين، وأن دماء الأبرياء التي سفكها في البلدين ستكون لعنته الأخيرة.

الدبلوماسي

من جانب آخر وفي سعيه لترجمة نتائج قمة طهران قام وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بزيارة لأفريقيا كانت محطتها الأولى، والأهم، في القاهرة ليشكر أولاً، ومن على منصة جامعة الدول العربية، بلدانها على موقفها “المتوازن” بشأن أزمة أوكرانيا، ويعلن ثانياً استعداد بلاده للحوار و”المزيد من النقاشات مع الأصدقاء العرب والإنصات لهم” بهدف “توضيح الحقائق”، حيث أن أمن بلاده القومي أصبح معرضاً للانكشاف في “ظل توسع حلف شمال الأطلسي” الذي لا يملك الحق في “التوسع في أمنه على حساب الآخرين وخاصة روسيا”، مؤكداً أن “سنوات كثيرة من الإهمال كانت سبباً في الحرب بالإضافة إلى وعود أخلفها الناتو كان قدمها للاتحاد السوفيتي قبل تفككه”، مشيراً إلى أن أبرز تلك المخالفات “ملء أوكرانيا بالسلاح بالإضافة إلى انقلاب في أوكرانيا 2005”.

وإذا كان الوزير الروسي قد أعلن الانتقال إلى مرحلة “تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، وذلك بعد رفع التبادل التجاري العربي الروسي إلى 20 مليار دولار، معرباً عن أمله في ارتفاعه بالعملات المحلية”، كاشفاً عن أن الكثير من الدول “أصبحت تنتقل لاستخدام العملات المحلية في التجارة والتبادل التجاري بعيداً عن الدولار وسوف يتطلب وقتاً طويلاً ولكنه لا بد منه”، فإنه، وبالطبع، لم ينس قضية العرب المركزية فلسطين قائلاً: “نريد أن نحيي اتفاق القدس (اتفاق أقرته اللجنة الرباعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية) وحل الأزمة الفلسطينية حيث تحل القضية المركزية”.

وضع العرب أمام مسؤولياتهم

لكن أهم ما طرحه رأس الدبلوماسية الروسية في القاهرة هو شرحه للدور الذي يمكن، ويجب، على العرب، وخاصة مصر، الاضطلاع به في القضية السورية عبر الشراكة في رعاية الحل السياسي طارحاً على المسؤولين المصريين فرصة استضافة حوارات المسار السياسيّ بدلاً من جنيف، داعياً لبذل جهود مصرية أكثر قوة ووضوحاً لحسم أمر عودة سورية للجامعة العربية، لفتح الباب أمام شراكة الجامعة في المسار السياسيّ، وصولاً لإمكانية التعاون الروسي المصري في حل الأزمة الليبية بناء على التعاون الذي سيظهره مسار حل الأزمة في سورية، خصوصاً أن تركيا شريك في الأزمتين السورية والليبية.

خاتمة

ذلك هو الفرق بين السياسي و”البلطجي”، الأول يتعهد فيسعى لتنفيذ الاتفاق وترسيخه وتأمين أوسع تأييد له، والثاني يتعهد فينكث، ويتفق فينقلب، ويعد فيخلف، ويقول فيكذب.

وبالتأكيد فإننا، في سورية، لا نراهن على عودة الوعي للبعض، وبالتالي إمكانية “نجاته” من ارتهانه القاتل سواء لأوهام القوة و”البلطجة” الشخصية أو لخارج ما ومشاريعه في المنطقة، أو حتى قدرة البعض الآخر، ممن حاضر فيهم لافروف، على انتهاج سياسة وطنية مستقلة نابعة من ضرورات أمنهم القومي الحقيقي لا من أمن “رصيدهم” المصرفي مما يجعلهم، وقد حصل، رهائن دائمين للبترودولار وتوجّهاته التي خبرنا جيداً نتائجها الكارثية على القضايا العربية، بل على أمن بلادهم ذاتها اجتماعياً واقتصادياً، منذ عقود طويلة، لكننا، وكما اعتدنا دائماً، نراهن على الحق الذي تسنده القوة والصبر الاستراتيجي بمعناه الحقيقي.. والأيام حبلى.