أوروبا الحائرة بين الاقتصاد والأمن
د. مهدي دخل الله
منذ انهيار الدولة العباسية أضحت أوروبا مركز الأحداث في العالم ، وحددت مصير البشرية في جميع مجالات الحياة ، السياسية و الاقتصادية والعلمية والفكرية . أصبحت الحضارة الأوروبية ونمط التفكير الأوروبي سائداً ومسيطراً من المحيط الهادي .. إلى المحيط الهادي . « الكرة الأرضية » بكاملها أضحت « لعبة قدم » أوروبية خالصة .
اليوم ، أوروبا تحولت إلى مادة صراع بين الكبيرين ، روسيا وأمريكا ، ولم تعد السيدة الحاكمة بأمرها . هي اليوم مجرد حجر على « رقعة الشطرنج الكبرى » .. ما يجمع « القارة العجوز » مع روسيا موضوعي وذاتي وثقافي ومصلحي . الموضوعي هو الجغرافيا ، والذاتي هو العرق لأن الروس أوروبيون ، والثقافي هو أن الأدب الروسي والموسيقى الروسية من أهم أركان الثقافة الأوروبية الحديثة ، فأعمال دوستويفسكي وتولستوي وبوشكين وتشايكوفسكي لا تقل أهمية للثقافة الأوروبية عن أعمال موزارت وفيفالدي وفيكتور هيغو . أما المصلحي ، وهو الأهم ، فهو التكامل الاقتصادي بين روسيا و الدول الأوروبية الأخرى . روسيا تملك مداخل الصناعة والزراعة الأوروبية ، أي الخامات والطاقة والذهب والقمح والعمالة ، كما تملك مخارج الاقتصاد الأوروبي أي الشروط التي تحقق الانتاج وهي السوق الواسعة التي تلتهم البضائع الأوروبية التهاماً ( يوجد في موسكو فقط حوالي خمسة ملايين سيارة من إنتاج أوروبي ) .
كانت أعين أوروبا مركزة دائماً على « خزنة الذهب والطاقة والقمح » عند الأورال وما بعد الأورال شرقاً ، وكلما ظهر « إمبراطور » أوروبي قام بحملة عسكرية مكثفة باتجاه «الخزنة» وصولاً إلى موسكو . فعلها نابليون الفرنسي ومترينخ النمساوي , وهتلر الألماني . وقبلهم فعلها البولونيون والإسكندنافيون .
العلاقة مع أمريكا لها شجون أيضاً , وأهمها الشجن الأمني والإصرار الأمريكي على إخافة الأوروبيين من الدب الروسي . وعلى الرغم من أن أمريكا الابن غير الشرعي لأوروبا إلا أن الجغرافيا تفرق بينهما . وحتى في مجال الفكر هناك إشكاليات ، فبينما تسعى أوروبا للتحول من الليبرالية التقليدية باتجاه السوق الاجتماعي تتحول أمريكا من الليبرالية التقليدية باتجاه معاكس تماماً هو الليبرالية الجديدة . وفي الثقافة هناك مشاكل أيضاً فأوروبا تسعى لإعادة إحياء الشعور الوطني والقيم الوطنية وتماسك المجتمع بينما تؤكد أمريكا على العولمة وإرهاصاتها ..
في هذا يمكن أن نفسر اهتمام أمريكا – خاصة الحزب الديمقراطي – بالناتو ( الهاجس الأمني ) وتصوير الدب الروسي بأنه مفترس . وهنا أيضاً يبدو واضحاً الاهتمام الروسي بالأمن الجماعي الذي يساوي بين الجميع ويعزز الروابط التاريخية بينهم .
mahdidakhlala@gmail.com