مجلة البعث الأسبوعية

غزة.. فصل من حروب المجمع الصناعي العسكري

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد

يمكن للمتابع أن يميز بسهولة واضحة مدى حجم الكذب الإسرائيلي والغربي خلال مجريات العدوان الأخير على غزة، حيث أن “إسرائيل” تدّعي أنها تخوض حرباً وجودية، أو على رأي المثل الأمريكي “إما الآن أو نهائياً”، بينما نشاهد على المقلب الآخر لخيوط الحقيقة أشياء وأحداث لا توحي بالشعور بالقلق أو الخوف، فجيش الاحتلال هاجم مطاري حلب ودمشق الدوليين وأخرجهما عن الخدمة لمرتين متتاليتين، بل ضرب الجيش المصري أيضاً بحجة أن ذلك عن طريق الخطأ، إضافةً إلى قصف متكرر لقرىً في جنوب لبنان. أما وزير الدفاع الأمريكي فيؤكد أن بلاده ستزرع نظام صواريخ “تاد” وتعزز منظومات “باتريوت” في الشرق الأوسط، ناهيك عن ما أرسلته بلاده سابقاً مع القطيع الأوروبي من مدمرات وبوارج حربية وطائرات إلى المنطقة.

ودراستنا هنا للفعل من جهة، ورد الفعل المبالغ فيه بحجم كبير جداً من جهةٍ أخرى، يُظهر مدى الرغبة الغربية في مدّ وتأجيج الصراع في الشرق الأوسط، بعد أن فتحت جبهة صراع طويل الأمد على الجبهة الأوكرانية، والتلويح بالتوتر في شبه الجزية الكورية وبحر الصين الجنوبي من خلال مجموعة كبيرة من الاستفزازات والتحركات السياسية الانفصالية ضدّ الصين، مروراً بإفريقيا ووصولاً إلى غزة.

إن ما حدث في غزة بتاريخ السابع من تشرين الأول الجاري بلا شكّ يمثّل نقلة نوعية في أسلوب المقاومة وإمساك زمام المبادرة في إعلان بدء الحرب على العدو الإسرائيلي، لكن بالمقابل فإن ما تقدم عليه “إسرائيل” وحلفائها من رد فعل غير محسوب ومتهور ستتلوه بالضرورة حلقات إقليمية في منتهى الخطر، إذ يمثل حركة من أمريكا وخلفها العالم الغربي كله الذي فتح أبواب مستودعات سلاحه على مصراعيها خدمةً لـ”إسرائيل” وبشكل يفوق ما حدث من دعم غربي لأوكرانيا، إذ فاقت عملية التجييش ضدّ غزة عملية التجييش التي حدثت في المشهد الأوكراني دون أي مبرر بالمقارنة مع حجم الخطر الذي تدّعيه “إسرائيل” والمتمثل بـ2,5 مليون فلسطيني يعيشون كأسرى في قطاع غزة المحاصر أساساً.

إن جذور ما يحدث اليوم من تأجيج للصراعات يمكن ربطه بنشأة الفكر والنظام الرأسمالي الذي حذّر منظروه ومفكروه من أنه يعاني من مشكلة تنبع من داخله وتتمثل في أنه يخلق حجماً لا متناهياً من الإنتاج بفعل الثورات الصناعية المتعددة التي مرّ بها من الناحية الإيجابية له، لكنه في وجهه السلبي يتميز بعلاقات إنتاج متكلّسة، فالثروات وبفعل الأنظمة السياسية الفاسدة تتجمع بيد قلّة من المحتكرين، وبالتالي فإنه مع مرور الزمن لن توجد أسواق لتصريف هذا الكم الهائل من الإنتاج، حيث كان لا بدّ من تدخل الدولة لإعادة تنظيم وتصحيح مسار العلاقات الاقتصادية، لكن وبعد تسيّد الفكر النيوليبرالي أو مفهوم الدولة الحارسة في أواخر القرن الماضي عادت الأزمات بقوة إلى النظام الرأسمالي مع تركز أكبر للأموال بيد المحتكرين، فكان الحل الجديد الذي ابتدعته الرأسمالية يتمثل في ابتداع أسلوب الحروب لتصريف الإنتاج الرأسمالي الهائل، وطبعاً هنا تجدر الإشارة إلى وجود عشرات الحلول لهذه الأزمة مثل “دولة الرفاه” التي تتحقق عبر عدالة توزيع الدخل، وغيرها من الآليات ولكن للأسف فإن مركز القوة الآن ينحصر في ما يسمى “مجمع الأسلحة الصناعي” والذي هو حلف بين شركات صناعة وتجارة السلاح وبين الشركات والمصانع الأخرى الكبرى في العالم، إضافةً إلى رجال السياسة الذين يرسمون سياسات تحدد مسبقاً من ذلك المجمع، كما أن ذلك المجمع هو من يحدد رجال السياسة الذين يتصدرون المشهد السياسي العالمي وفق مصالحهم واحتكاراتهم.

لقد تم استعمال أوكرانيا كمضخة دماء هي الأقوى في عروق النظام الرأسمالي المهدد بخطر الركود، وهذا ما يفسر طول المدة الزمنية لحربها التي تحقق أهداف هذا النظام الاقتصادي الطفيلي عبر هدفين الأول بيع وتصريف الأسلحة، والثاني يتمثل في تدمير الأسلحة مع المدن والبنى التحتية لإعادة إعمارها بعد ذلك من الشركات الرأسمالية مع جلب المزيد من السلاح، في صيغة تفضح مدى عبثية هذا الفكر الاقتصادي المريض الذي يهمه حماية عدد من الفئات فقط مهما كان الثمن، وسمعنا الكثير من مفكري هذا النظام الاقتصادي يصفوه بالقول: “هناك تزايد في اللامساوة تجاه هذا النظام”.

ولا بدّ في سياق دراسة مشكلات النظام الرأسمالي من التعريج على ظواهره السيئة المتجدّدة وعلى رأسها “توحش المؤسسات المالية” التي بدأت تنمو بشكل أكبر من الإنتاج، مع نمو لمفهوم النقد كحامل للقيمة والذي حوله لأداة للمضاربة، بشكل يحقق دخولاً هي الأعلى في ظلّ انخفاض الحصافة “الجدارة” الائتمانية للدول الرأسمالية، حيث تجاوز سقف الدين العالمي ثلاثة أضعاف الناتج العالمي، وهذا طبعاً ينبئ بكارثة جديدة في قادم الأيام لدول هذا النظام المتهالك الذي يحاول حل الأزمات على حساب دافعي الضرائب ومحدودي الدخل، والأنكى من ذلك أن النظام الرأسمالي يدعم ويكافئ المخطئ في كل مرة، فما حدث في أزمة الرهن العقاري عام 2008 يحدث ويتكرر في كل مرة والضحية هي محدودي الدخل.

إن الوضع الإقليمي الحالي لا يمكن بأي حال من الأحوال فصله عن المشهد العالمي العام، والذي لا ننسى أنه يشهد مرحلة انتقالية، تتمثل في هبوط أمريكا من مكانتها في تسيد العالم، وتحضّر أقطاب أخرى صاعدة لقيادة العالم وعلى رأسها الصين، وإن واشنطن في هذا السياق تسعى لكسب الأرض بالإضافة إلى تحقيق غاياتها الرأسمالية الأخرى، ولذلك تحاول جاهدة تطويق الصين وإفشال مشاريعها التنموية في الشرق الأوسط بقوة، وهذا أيضاً يدفعها لتغذية سيناريو الحروب في المنطقة تمسكاً بمكانتها المهددة الزوال قريباً.

فما يحدث في غزة إذاً يمكن إدراجه ضمن صراعات الرأسمالية وهيمنتها على العالم بمؤسساتها الحقوقية والمالية التي ستسقط مع صعود القوى الصاعدة لعالم الجنوب  ومؤسساته وكياناته وعلاقات الاقتصادية العادلة للدول والقائمة على السلم والمساواة.