مجلة البعث الأسبوعية

المسألة لا تتعلق بإبادة شعب فقط… بل الكوكب برمته.. دكتاتورية الإعلام الغربي ومأساة الشعب الفلسطيني التي لا نهاية لها

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

في سياق ردود الفعل الغربية الشحيحة على العدوان الإسرائيلي الراهن على قطاع غزة والضفة الغربية، وعلى استهداف مشفى المعمداني في غزة، أصدر مجلس كنائس الشرق الأوسط بياناً حول حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، أشار فيه إلى أنه لم يعد سراً أن ما يواجهه الشعب الفلسطيني في غزة ليس رداً عسكرياً على عمل عسكري، بل إبادة جماعية وتطهير عرقي، يستهدف نزلاء أكبر سجن في غزة، في تاريخ الإنسانية، مع سبق الإصرار والترصد.

لافتاً إلى أن ما يحدث في أرض غزة من ممارسات الأرض المحروقة، يخرج عن كل منطق، ويخرج عن الحق الإلهي والإنساني، فحتى الحروب لها قواعد تحددها المواثيق والمعاهدات الدولية، وعليه، فإن مهاجمة المدنيين العزل، بما في ذلك المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، وكذلك الأطفال والنساء والمسنين، وتدمير البنية التحتية والنظام الطبي، واستهداف العاملين في المجال الطبي والصحفيين، وقطع المياه والإمدادات والأدوية عن مجتمع مكون من نصف مليون إنسان، لا يمكن وصفها إلا بأنها جريمة ضد الإنسانية. إن مجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي تضم في عضويته كافة كنائس المنطقة، وتنتشر مؤسساته التنموية على أرض فلسطين وخريطة التهجير الفلسطيني، يدعو المجتمع الدولي، بما في ذلك المؤسسات الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان والطفولة والمجتمع الدولي، إلى حماية المدنيين، ويدعو كافة الشرفاء في العالم إلى اتخاذ الموقف المناسب واتخاذ الإجراءات الفورية، وأولها وقف العدوان على غزة ورفع الحصار وفتح المعابر. وإذا لم تتصرف البشرية ككل على الفور وبشكل مناسب، فإن هذه الجريمة ستبقى إلى الأبد وصمة عار على جبين الإنسانية.

فبركة وأكاذيب

إذا كان هناك دليل لا جدال فيه على أن الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان والديمقراطية ليس أكثر من أكاذيب وتلاعب، فقد تجلى في الحرب العالمية الشرسة على سورية، وغزو العراق والعدوان على ليبيا واليمن بناءً على فبركة الأكاذيب، وها هو اليوم يتجلى في التغطية المتحيزة للكيان المحتل المجرم، للحلقة الأخيرة من المأساة الفلسطينية، التي تغذيها السلطات الإسرائيلية والغربية مع الإفلات من العقاب لمدة 75 عاماً، حيث عملت ولا تزال على قلب الأدوار فحولت الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد. فمن الذي تعرض للاضطهاد وسرقت أراضيه وصودرت حريته وانتهكت أبسط حقوقه؟

بالطبع الشعب الفلسطيني، الذي ثبت أن مصيره لا يهم الديكتاتورية الإعلامية الغربية التي تعمل على خنقه من خلال إطلاق عمليات تلاعب عملاقة، كما يحدث اليوم، لخداع الرأي العام الدولي وإجباره على قبول الإبادة الجماعية الجارية في غزة.  وما الذي يمكن أن يكون أفضل من “القتل” الوحشي للأطفال حتى تتمكن آلة الدعاية الغربية من الاندفاع ضد الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه إضفاء الشرعية على جميع الجرائم الشنيعة التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة.  الدعاية وقتل الأطفال ليست هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها الغرب هذا التمثيل الرهيب للقتل الوحشي للأطفال.

كذبة الحاضنات

وهنا لابد من استحضار الكذبة الكبرى المتمثلة في حاضنات الأطفال التي تم إلقاؤها على الأرض من قبل الجنود العراقيين. هذه الكذبة التي صاغها خبراء الدعاية بشكل جيد، والتي كلفت 14 مليون دولار، سمحت للولايات المتحدة وحلفائها بشن حرب الخليج الأولى.  قصة   الحاضنات فبركتها “نيرة”، الممرضة المزيفة التي تبين أنها ابنة سفير الكويت في واشنطن.  وسرعان ما بثت أجهزة التلفاز في مختلف أنحاء العالم أداءها المليء بالدموع أمام لجنة تابعة للكونغرس الأمريكي، الأمر الذي أدى إلى تأرجح الرأي العام وانتصار صناع الحرب.

وفي عام 2003، كررت الولايات المتحدة الكذب والنفاق والفبركة المعهودة لغزو العراق، عندما أمسك وزير الخارجية الأمريكي كولن باول زجاجته الشهيرة بيده ورفعها في منبر مجلس الأمن وهو يلوح بها زاعماً أن فيها حفنة من أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها العراق. ولكن مرة أخرى أخافت الآلة الإعلامية العالم بتهديد الأسلحة الكيماوية العراقية، ومن سوء حظ مليوني أسير في السجن المفتوح في غزة أن هذا يتكرر مرة أخرى مع القصة الرهيبة للأطفال الإسرائيليين الذين يقال إن حماس “قطعت رؤوسهم” بوحشية، ويكفي إعطاء الضوء الأخضر الغربي للإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الإسرائيلي المحتل والإرهابي بحق الفلسطينيين.

وحتى المستشفيات يتم قصفها بشكل ممنهج في انتهاك صارخ للقانون الدولي، وبالتالي تعتبر جرائم حرب.  ومع ذلك، لا الأمم المتحدة ولا المحكمة الجنائية الدولية ولا الديمقراطيات الكبرى ومنظماتها غير الحكومية، التي تعتبر نفسها معنية بحقوق الإنسان تهب لمساعدة الضحايا، بل تكتفي بالتعبير عن قلقها وتنديدها والدعوة إلى ضبط النفس. ولم ير أحد هذه اليد الغربية تتحرك هنا، والتي تسارع أيضاً إلى الإدانة وفرض العقوبات. بل على العكس من ذلك، حتى هذه الديمقراطيات المزعومة تتجرأ على انتهاك قوانينها من خلال حظر مظاهرات التضامن مع الفلسطينيين. وهذا هو الحال في فرنسا، حيث يتعرض أعضاء البرلمان الذين يجرؤون على المطالبة بتطبيق القانون الدولي ضد الكيان المحتل للتهديد، وهذا يوضح مدى دعم فرنسا والغرب عموماً لهذا الكيان الإرهابي. هذا الغرب الجماعي المتغطرس شريك في المأساة الفلسطينية، وهو السبب وراء مصادرة الأراضي الفلسطينية لصالح المستعمر الإسرائيلي، في محاولة لمحو المحرقة التي ارتكبوها بأنفسهم ضد المجتمع اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن للإنسانية أن تتمتع بمثل هذه الذاكرة القصيرة وتكرر نفس الجرائم قرناً بعد قرن؟ لا شك أن الوقت قد حان لإعطاء العالم رؤية أخرى غير الرؤية الغربية الأحادية القطب، ويجب أن تكون البداية من الأرض الفلسطينية من خلال فرض حق هذا الشعب في أن يكون له دولته المستقلة وحريته.

وهذا هو مطلب الغالبية العظمى من شعوب العالم. ويبقى انتظار رؤية ما إذا كانت مجموعة البريكس والأمم المتحدة ستتحمل مسؤولياتها، وتضع حداً لهذه المأساة الإنسانية التي استمرت لمدة 75 عاماً، هذا هو السؤال الكبير.

طبيعة الإبادة الجماعية التي يمارسها الغرب

في سياق متصل، تحدثت التايمز عن “الأطفال الإسرائيليين المشوهين”، بينما تتعمد إغفال الحديث عما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ليس اليوم فقط وإنما منذ 75 عاماً، حيث يمارس الغرب مع وسائل إعلامه، وسياسييه، وجزء من الرأي العام الغربي، إبادة جماعية بشكل علني. والعالم كله يشهد مجزرة صناعية وإعلامية، إنها الإبادة الجماعية في غزة. علاوة على ذلك، أطلق الكيان المحتل على الفلسطينيين اسم “الحيوانات” علناً، وهو يقصف السكان المدنيين، ونصفهم من الأطفال بالذخائر الثقيلة والفوسفور الأبيض المحترق.

لقد نشر الرئيس الأمريكي الأكاذيب حول قطع رؤوس الأطفال، وهي ذريعة كلاسيكية للتحريض على المذبحة. وعندما دار حديث عن وقف إطلاق النار، قال السكرتير الصحفي للبيت الأبيض: “نعتقد أنهم مخطئون، نعتقد أنهم مثيرون للاشمئزاز”.

وفي دول مثل فرنسا وألمانيا، يتم تجريم الاحتجاجات وحتى إنهم يعتبرون رفع العلم الفلسطيني حالة عنف. وهكذا أصبح العالم الغربي بأكمله، المتغطرس والموعظ الأخلاقي، يمارس الإبادة الجماعية بالكامل دون أن يهز له جفن، وبات العالم يرى بأم العين عملية تطهير عرقي واسعة النطاق، حيث أمرت سلطات الكيان المحتل مليون ومئة ألف فلسطيني بالرحيل، وهددت كل من يبقى بيته سوف يقتل، في الوقت الذي تقوم فيه بتدمير شمال غزة.

لا يوجد مخرج من غزة، فهي سجن في الهواء الطلق، وسلطات الكيان المحتل تطلق النار على كل من يحاول الخروج من جانبها وقصفت المعبر إلى مصر. أما الولايات المتحدة، أقوى حلفاء الكيان، فقد أرست حاملة طائرات لمنع أي إنقاذ عن طريق البحر، وهذه إبادة جماعية مطلقة وجرائم حرب متتالية.

وكما يقول أرنارد برتراند، الفيلسوف البريطاني: “إن غياب أي معارضة عامة من الحكومات الغربية يعني أن الأخلاق وحقوق الإنسان والإنسانية الأساسية قد انهارت بالكامل في الغرب، وانهار معها كل ما يزعمون أنه يمثلهم”.  وكما قال جنرال غربي: إن جميع القادة الغربيين قاموا بتمويل وتسليح أو تشجيع مرتكبي هذه المذبحة أو تستروا عليهم، وهذا عار عليهم”.

وفي نفس السياق، يوضح المحللون أنه وفي هذا السياق الفاسد، فإن المقاومة الفلسطينية هي الأكثر عقلانية على الإطلاق، ويكفي الاستماع إلى مؤتمرها الصحفي حتى نقتنع: “يُطلب من الغربيين أن يكرهوا المقاومة على الرغم من عدم وجود أي فكرة لديهم عن وجودها.  لقد نجح الأمر لأنه تم تأليب الرأي العام ضدها ورسخوا كراهية المسلمين لأجيال، فهم يغيرون الاختصار كل بضع سنوات”.

ويضيف المحللون أن المقاومة تتحدث عن الحق في المقاومة المسلحة للدفاع عن نفسها وعن فلسطين المحتلة، وتشير إلى أن الكيان المحتل يرتكب إبادة جماعية.

مقابل ذلك، يبدو أن كير ستارمر، زعيم حزب العمال في المملكة المتحدة، يعتقد أن حرمان السكان المدنيين من الغذاء والماء يتوافق مع “القانون الدولي”، بينما طلبت الجمهورية نيكي هيلي من الكيان المحتل القضاء على المقاومة.

بناءً على ما سبق، فإن كل الحديث عن حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية ما هو إلا أسلحة في أيدي هؤلاء المجرمين، ولكن الفلسطينيين يتمنون لو تفعل سلطات الكيان المحتل ما فعلته سياسة الصين تجاه الأويغور. فقد عانت الصين من مشكلة الإرهاب، وبدلاً من قصف الايغور وتعذيبهم، وضعت أعداداً كبيرة منهم في معسكرات إعادة التعليم وحقنت التنمية الاقتصادية في مقاطعة شينغيانغ.  بينما عمل الغرب على فرض العقوبات الكيدية والجائرة على الشعب الفلسطيني ودفعه إلى الفقر، وجعل الفلسطينيين يعيشون في نظام فصل عنصري عديم الجنسية، ثم تجويعهم وقصفهم حتى الموت عندما ينفجرون في النهاية.

هؤلاء الغربيون يزعمون بأنهم سلطات أخلاقية، ولكن بالنسبة لهم، حقوق الإنسان مجرد سلاح آخر، فهؤلاء المستعمرين، الذين تحدثوا عن الإبادة الجماعية والسرقة، لم يتغيروا أبداً، لقد استبدلوا ببساطة الخطاب حول “الحضارة” بالخطاب حول “حقوق الإنسان” . ومهما كانت الكلمات المستخدمة، فقد كانت دائماً ذريعة للاستيلاء على أراضي الشعوب الأخرى ونهب خيراتها. وهكذا، نمت أمريكا وأوروبا على أجساد من تعرضوا للإبادة الجماعية والسرقة، و”إسرائيل” هي موقعهم الاستعماري. وبطبيعة الحال، فإنهم اليوم يدعمون الإبادة الجماعية المفتوحة التي يتعرض لها الفلسطينيون.

وإذا حاول أحد ما بتأريخ كل مدينة، وكل قرية، وكل حياة بريئة جرحها القصف الأمريكي المستمر منذ الحرب العالمية الثانية، فسوف تنفد الصفحات قبل أن يدرك ضميرهم ذلك من رماد هيروشيما إلى مدن كوريا المحترقة، مروراً بأطفال فيتنام المليئين بقنابل النابالم، والندوب السرية في لاوس وكمبوديا، وبقايا يوغوسلافيا المحطمة، ورمال العراق الغارقة في الدماء، والجبال الثكلى لشعب أفغانستان، والأرض المنقلبة في شوارع ليبيا، والجراح النازفة في سورية التي تعرضت لحرب كونية شرسة على مدى 12 عاماً.

لقد أظهر الغربيون نصف قوتهم في الحرب الأوكرانية، حيث تم صدهم فجأة عن طريق الغزوات، بعد غزو بلدان عشوائية لعقود من الزمن، فالحرب شيء “يضرب السكان الفقراء والنائيين”، وكأن القنابل والسفن الحربية الغربية لا تسعى جاهدة إلى مطاردتهم، وكأن الغرب ليس لديه خيار.

إن صوت الإبادة الجماعية السلبي هذا موجود في كل مكان لأنهم لا يعتبرون الآخرين بشراً، وكما قال وزير خارجية اليونان، يانيس فاروفاكيس: “عندما تدافع المقاومة الفلسطينية عن نفسها وتستهدف جنود الاحتلال فإن الغرب والصحافة لا يضيعون الوقت في وصفها بأنها أعمال شريرة خالصة. ولكن عندما ترتكب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية جرائم حرب، يصفها الغرب والصحافة بأنها حتمية، وكأنها من أعمال الله ــ مثل بركان ينفجر كالمعتاد، كما تمليه طبيعته”.

لقد جرب الفلسطينيون كل السبل الممكنة لتأكيد حقوقهم ليجدوا أنفسهم في معسكر اعتقال بسبب مشاكلهم، ولهم الحق في المقاومة المسلحة، وقد أعلن أحد البرلمانيين الإسرائيليين صراحة: “في الوقت الحالي، هناك هدف واحد فقط: النكبة! نكبة ستطغى على نكبة 48”.

مذبحة عالمية

إن العالم يشهد مذبحة عالمية ولا أحد يحرك ساكناً، وبالنسبة للكيان المحتل والغرب، فإن كل كذبة يقولونها لتبرير عنفهم هي ما يفعلونه في الواقع. لقد كذب الغرب بشأن قيام العراق بإخراج الأطفال من الحاضنات، والآن قامت سلطات الكيان المحتل بقطع الكهرباء عن قطاع غزة بالكامل، مما أدى إلى مقتل كل طفل محتاج. ينشرون الأكاذيب حول انتزاع الأطفال من أرحام أمهاتهم، وهو ما فعله جنود الاحتلال فعلاً خلال مجزرة صبرا وشاتيلا. وينخرط السياسيون ووسائل الإعلام الغربية في طقوس من خطاب الكراهية، وحتى مجرد ذكر وقف إطلاق النار يعتبر مثيراً للاشمئزاز. لقد كان الغرب دائماً يمارس الإبادة الجماعية ببطء وبشكل ممنهج، لكن هذا يحدث اليوم بسرعة وفي وضح النهار. هذا الغرب يسلح ويشجع ويدعو علانية إلى الإبادة الجماعية، وهذه المذبحة الشريرة المعلومة تتكشف أمام أعين العالم قاطبة،  في حين أن هذا “النظام القائم على القواعد” ليس سوى حكم العنف والنفاق، لذلك يجب كسر القواعد وتدمير هذه الإمبراطورية البيضاء الشريرة، لأن المسألة لا تتعلق فقط بإبادة الشعب الفلسطيني بل تتعلق بإبادة الكوكب برمته.