أخطر أدوات الحروب الجديدة
لم تكن ظاهرة غزو التفكير وغسيل الأدمغة، والتحكّم بالعقول، وليدة العصر الحديث، فهي ظاهرة تاريخية لا يعترف غالباً بها المغلوب، بل يكابر إزاءها، في وقت لا أحد إلا يطمح إلى العمل بها وتوظيفها. فقد خضع لها الأفراد والمجتمعات والشعوب منذ فجر التاريخ، ولم يكن هذا الخضوع ضارّاً بالمطلق، فهناك كثيرون يرون فيها حاجة وضرورة ومنفعة، لكنها في الأغلب استراتيجية وإيديولوجيا طامحة وطامعة تنطلق من السيطرة والاستبداد ومصادرة الوعي الحر، والهويّة الوطنية، والانتماء الطوعي، وهي تتناقض مع مفهومات التنمية بأنواعها.
ولربّما تعدّ الشعوب والدول العربية، والإسلامية، ومعها الشعوب الأفروآسيوية الأكثر عرضة لمخاطرها في العصر الحديث، وإذا كان هناك من مؤشرات مضيئة لمواجهتها فهي ما نجده في حركات التحرّر الوطني العربية والعالمية التي نشأت وتطوّرت وانتصرت منذ مطلع القرن الماضي، وكادت تتلاشى مع مطلع تسعينيات ذلك القرن، مع القطبيّة الأحاديّة وسطوة المحافظين الجدد، وسياسة (من ليس معنا فهو ضدنا).
نعم، وللأسف، يمكن أن نعدّ العرب اليوم أنموذجاً صالحاً وساطعاً للبحث في هذه الظاهرة وهذا واضح من الدور المتلاشي، أو البائس لمؤسسات العمل العربي المشترك، ولمآلات المشروع القومي العربي الذي كان ناهضاً قبل قرن من الزمن، ومن انشغال جامعة بعضهم بالتدخلات الإيرانية والتركية مقابل صرف النظر عن التطبيع والغطرسة الصهيونية. دون أن ننسى تجربتهم النيّرة بأعلامها ومناضليها في عصر اليقظة والنهضة ضد الاستعمار والاحتلال العثماني والأوروبي، وكذلك محور مقاومة المشروع الصهيوني وأدواته وأساليبه. لكن المشهد العام اليوم في أوسع تجلياته يدعو للأسف من جهة، ومن جهة ثانية أهم إلى اليقظة والاستنهاض، والمراجعة والحذر، والنضال.
وللحقيقة والواقع، فإن هذه المخاطر ماثلة للعيان، ولا تُجابه بدون وعي مطابق يوقظ العقل والوجدان الجمعي ضد منهجيات السيطرة على التفكير التي تُمارس وتُطبّق على الشعوب والأنظمة التي لا تعرف أنها تعرّضت لعمليات غسيل دماغ وتحكّم بالعقول إلا بعد فوات الأوان. هذه العمليات هي نتاج علم وبحث ودرس مستدام يقع بين أفقي علم التاريخ وعلم التحليل النفسي، وليس الأمر فقط في الميدان النظري، فهو في المختبرات أيضاً فهناك عقاقير ذكرها القذافي الرئيس الليبي الراحل «الحبحبة»، وهناك على الأرض ثورات ملوّنة نجح بعضها أو أغلبها في الإجهاز على الدولة كمؤسسات وطنيّة، وعلى المجتمع كنسيج تاريخ نضالي للشعب بعد غسيل دماغ الجماهير وتوجيهها نحو الاحتجاجات والتظاهرات وهدم الجسور والمعامل والمدارس ونبش هويات غير وطنية ونشرها بذريعة المطالبة بالحرية.
هناك مثقّفو بترودولار وتكنوقراط انقطعوا إلى الهدم جرّاء معطيات هذا البحث من أمثال جين شارب، وعزمي بشارة، وبرنار هنري ليفي… إلخ، وهناك مؤلفات عديدة مترجمة منها ما يعجبك ومنها ما لا يعجبك أضاءت على الإيجابي والسلبي في هذا المجال، ما ينبغي مثاقفتها، منها على سبيل المثال: المتلاعبون بالعقول، ومنها: رجال الظل – المتلاعبون بالعقول -، وكذلك: العقل الأسير، وقبلها كتاب غوستاف لوبون الشهير: سيكيولوجيا الجماهير… إلخ.
وهناك من يقول إن ضحايا غسيل الأدمغة والتحكّم بالعقول هم الناس الضعفاء الذين يسهل استهدافهم، وهناك أيضاً من يعود بالظاهرة إلى (نظرية المؤامرة) من خلال الرهان على العقل الإنساني الضعيف الذي يمكن غسله فتنخفض قدرة الطاقة على التفكير، ويذوب المغاير في المتجانس، وتسود غريزة القطيع، مقابل ردود كثيرة في هذا المجال يظهر غير قليل منها من البحث مثلاً في دور الشاب وائل غنيم الذي لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره – صديق جاريد كوهين مدير غوغل – الذي حرّك الشارع المصري وأسهم بسقوط دولة المؤسسات في مصر مبارك، وفي وصول الإخواني مرسي إلى السلطة.
والحقيقة هي أن هذه الظاهرة مثار تبادل اتهامات تاريخيّة بين الخصوم، وفي الغرب والشرق، ولا أحد ينجو منها في العالم مع الدعاية والإعلام والتنافسات الانتخابية، فهناك استجابات سلوكية واقعية خضعت للتلاعب بأذهان الأفراد والمجموعات والشعوب عامتهم وخاصتهم مثالها تغذية الإدارة الأمريكية للمشاعر الإحيائية – الدينية – للجيش قبل ومع غزو العراق واحتلاله.
في عالم اليوم، عالم الانترنت والتكنولوجيا الرقمية الذي أسهم في تغذية أشكال غير مألوفة سابقاً من أجيال الحروب، ونجح في ترويج الكراهية والتشكيك والتطرف والإرهاب – إرهاب الأفراد وإرهاب الدولة – لم يعد كافياً التنديد بالمنتصر جرَّاء نجاحه في ظاهرة الغسيل والتحكّم، بل يجب غسل هذا بالوعي، وبالتنمية الاجتماعية المستدامة، وهذا دور متكامل للأحزاب والمنظمات والنقابات، مع المؤسسات الوطنية بمختلف قطاعاتها.
ما يتوجب مع هذا كلّه الاستفادة من كلمة السيد الرئيس بشار الأسد في إعادة افتتاح المركز الوطني للمتميزين في حمص وتأكيد سيادته على: أن ما دمّر سورية هو الجهل الذي أخذ الناس باتجاه الإرهاب… فلا بد من أن نرفع القدرة على تطوير المعارف والوعي والانتماء إلى الوطن، وتطوير الشخصية، وتحليل المعلومة، وتعزيز الحوار.