مجلة البعث الأسبوعية

المشهد العالمي: موسكو-بكين بايدن “يجمعهما”..لكن!

أحمد حسن

واشنطن المتوترة والراغبة بجرّ الصين، اليوم قبل الغد، إلى فخ تايوان، بعد نجاحها في جرّ روسيا إلى فخ أوكرانيا، تفتح اليوم منطقة اشتباك قديمة جديدة عندما اعتبرت على لسان “ستيفن تاونسند”، القائد السابق للقوات الأميركية في إفريقيا، أن الدور الروسي والصيني في إفريقيا “خبيث”!.

سبب “الخبث” لا يحتاج إلى شرح كثير، فالعلاقات التي تطوّرها موسكو هناك والشراكات التي تقدّمها بكين إلى الأفارقة، في حال استمرارها بسلام، تجعل من الممكن لهؤلاء الانعتاق من النير الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً، ما يعني خسارة الثروات الهائلة التي تعجّ بها القارة السمراء وتعود فوائدها على الغرب حصراً الذي يتمتع بها، بل يبني عليها رفاهيته وبالتالي أمنه الداخلي وديمقراطيته العتيدة.

 

واشنطن تجمعهما!

بالمحصلة واشنطن تجمع في العداء بين الطرفين كعدوّين رئيسيين. كل وثائقها الاستراتيجية للأمن القومي، وخاصة في السنوات الأخيرة، تؤكد بعبارات صريحة ذلك، بل إن إدارة “بايدن” التي افترض البعض أنها جاءت لتخفّف من التشنج الدولي تؤكد “أن أبرز التهديدات المستجدّة للنظام الليبرالي الدولي، هو ذلك المتمثّل بالقوى التحريفية كالصين وروسيا”، إذاً “احتواء صعود القوّة الصينية الصاعدة على المستوى الاقتصادي والاستراتيجي يصبح، في هذه الحالة، دفاعاً عن الديمقراطية قبل أيّ اعتبار آخر”، وطبعاً هذه الجملة الأخيرة للاستهلاك، أو للتضليل الإعلامي، ليس أكثر.

لكن المفارقة أن بكين وموسكو تبدوان مجتمعتين في الصورة أكثر مما هما في الواقع، بل يبدو، بتدقيق بسيط، أن هناك “تفارقاً” ما بينهما لم تستطع صورة “شنغهاي” الجامعة ولا الحديث فيها عن “توسيع تبادل المعلومات حول مكافحة التطرّف والمحاولات الخارجية لتقويض النظام الدستوري لكلا البلدين من أجل عرقلة السياسات المستقلة لروسيا والصين” أن تطغى عليه –الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك- بل إن بعض قراءات دلائل ورسائل اجتماعات الرئيسين في “شنغهاي” ذاتها أكّدته، مشيرة إلى تباعد ما عزاه المحللون إلى الانتكاسة الروسية الأخيرة في أوكرانيا.

بيد أن هذه الانتكاسة غير كافية لتفسير عدم اجتماعهما (تحالفهما)، فالسبب الحقيقي لذلك هو رؤية الطرفين للعالم. موسكو مثلاً تريد تغييره بالكامل لأنها لا تجد نفسها فيه. بكين تريد أن تحافظ عليه وأن تكون جزءاً فاعلاً منه معتقدة أن الاقتصاد والتشبيك مع العالم -وهو ما فعلته في الفترة الماضية- طريقها الآمن لذلك، لكن التاريخ يقول: إن الاقتصاد وحده لا يكفي فلا بد من قوة عسكرية تحميه. التجار العرب مثلاً كانوا يسيطرون، حتى نهاية القرن الخامس عشر تقريباً، على المنطقة الممتدة بين المتوسط وجنوب إفريقيا وسواحل الصين، ثم جاءت الأساطيل البرتغالية المسلحة فتغيّر كل شيء.

 

إنه الاقتصاد يا..

والثابت تاريخياً أن النهب الغربي لبقية أرجاء العالم خلال الخمسمائة عام الأخيرة من تاريخ البشرية كان السبب الرئيس في نهضته التي سمّاها عالمية، بينما كان على بقية دول العالم، ومن بينها الصين وروسيا، أن تصمت وتقنع بدورها الطرفي كمزوّد بالثروات والمواد الأولية ومتلقّ لنفايات العالم ومستهلك لإنتاجه، وكل حكومة وطنية حاولت البحث عن علاقة متكافئة على الأقل مع الغرب تعرّضت إما لانقلاب داخلي يصدف أنه يأتي بسلطات أكثر خضوعاً للغرب، أو لتدخل مباشر سواء عبر القوة الصلبة أم الناعمة.

وبإيجاز مبتسر، بطبيعة الحال، هذا ما يحدث اليوم للصين، لقد وصلت باقتصادها و”طريق حريرها” إلى مكان لن يسمح به الغرب، وإذا كان “كلاوزوفيتز” قد قال: “إن للاقتصاد الحديث مكانة في القتال تضارع مكانة السيف في المثاقفة”، فـ”السيف” الاقتصادي الصيني أصبح “يشكّل تهديداً متزايداً تجب مواجهته بجرأة”، وقرار “احتوائها” اتُّخذ منذ ما يقرب من عقد من الزمن، حين أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما، وتابعه ترامب ثم بايدن، “أن الصين، وليس روسيا، هي المنافس الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة”، لأنها تعمل على تعزيز “نظام دولي منخفض التكلفة وعديم القيمة نسبياً، ويتمحور حول المصلحة الذاتية للبلاد”، وهي “تحقّق نجاحاً ملحوظاً في إنشاء بنية مالية بديلة تشكّل تهديداً رئيسياً طويل المدى لقيادة الولايات المتحدة”.

هنا نفهم أن زيارة المسؤولين الأمريكيين لتايوان ليست حبّاً بنظامها الحر كما يقال، زيارة نانسي بيلوسي، فقد أضحت ذرائعها الديمقراطية واهية بعد الكشف عن علاقتها وزوجها بشركات أشباه الموصلات الدقيقة أو “نفط القرن القادم”، بل بهدف استفزاز بكين تحديداً كي تُجرّ إلى حرب مدمّرة ليس لها سوى أن تعرقل نموّها الاقتصادي الهائل، وإذا لم تحدث الحرب فيمكن للعقوبات الاقتصادية أن تفعل فعلها، هذا ما حصل مع شركة هواوي مثلاً.

وهنا أيضاً نفهم كيف يصبح الدور الروسي والصيني “خبيثاً” بالمنظور الأمريكي ليس في إفريقيا فقط بل في كل مكان آخر في العالم، ونفهم بالتالي سبب الإصرار الأمريكي على توريط بكين في فخ تايوان في هذه اللحظة قبل أن تستكمل الصين بناء قوة لا يمكن بعدها فعل شيء.

 

المفارقة..

اللافت أن لدى الطرفين، روسيا والصين، قناعة ثابتة بـ”استحالة التوصّل إلى تفاهمات شاملة وثابتة مع الغرب الذي يكرههما لما هما عليه، لا لما تفعلانه”، لكنهما لا تجتمعان كما يجب لأسباب عدّة، الأمر الذي يعزوه بعضهم إلى تحذيرات بايدن لبكين من مغبّة التقارب مع روسيا، والثابت أن تهديدات واشنطن يجب أن تؤخذ على مأخذ الجدّ في أي مكان في العالم، لكن ذلك غير كافٍ في حالة موسكو وبكين، بل لا بدّ من التفتيش عن الاقتصاد ورؤية الصين لدورها في العالم، تغييراً أم مشاركة؟!.

 

خاتمة

يوماً ما سقط جورج بوش الأب في الانتخابات الرئاسية، وهو بطل حرب الخليج، أمام الشاب “الغر” بيل كلينتون تحت وطأة الاقتصاد، وأمريكا تريد إسقاط العالم كله وتحديداً كل من يقترب منها اقتصادياً، وإذا لم يكن بالإمكان فعل ذلك مباشرة فالحل الأمريكي يتمثل بصناعة فخ ما له، وهي لا تحتاج للبحث عن الأفخاخ طويلاً بل يكفيها “التقليب” في تركة بريطانيا الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس، لكنها لم تغِب عن أفخاخها التي صنعتها وتركتها حكومة صاحب أو صاحبة بعناية فائقة للاستثمار فيها لاحقاً، ثم سلّمت إحداثياتها ومفاتيحها لحكومة “العم سام” الذي يقاربها بكفاءة عند الحاجة، واضطرابات منطقتنا، سواء كانت ذات منشأ حدودي  أم إثني أم سلطوي، هي جزء منها، وهذا ليس أمراً “خبيثاً” في قاموسنا، فنحن نبكي جلالة الملكة ونتمسّح بـ”العم”، بينما يجب مواجهتهما.. لكنه الاقتصاد يا..