ثقافة

يحترم كل النماذج لكن “العمودي” أقرب إلى قلبه عبد اللطيف محرز: في الشعر نافذة ميتافيزيقية مفتوحة على الغيب

إنه شاعرٍ حمل جروح وطنه وهمومه دائماً، ملتزماً بالقضايا العامة، يلوذ بها وكأنها همٌّ خاص به، عبد اللطيف محرز شاعر الوطن والأرض والانسان، هذا القروي الذي سكنت الطبيعة قلبه وسكنها، قلبه يخفق بجناحيه في فضاءات مفتوحة ويشده عزمه وطموحه فيذهب بعيداً في تحليقه، كلماته تفوح برائحة الأرض المختلجة بالحياة، غنى الجمال والحب والحق والحرية وسورية والعروبة، وشعره ليس سجلاً لآلامه وآماله فحسب، بل لآلام وآمال جيل كامل.
الشاعر عبد اللطيف محرز من رجالات الفكر والسياسة المخضرمين في سورية، وله تاريخ نضالي حافل في مجال العمل السياسي، وأديب عرفته ساحة الشعر الموزون والمقفى، التقته “البعث” وكان هذا الحوار الذي بدأناه بالحديث عن نشأته وقريته التي كان لها نصيب كبير من قصائده فيقول:
<<  نشأت في بيئة طبيعية جميلة في قرية صغيرة من محافظة طرطوس تقع على ضفة أحد الأنهار، وتحيط بها البساتين، وأحراج السنديان والزيتون، وهي بيت ناعسة، وقد كان لهذه الطبيعة أثرها الكبير في شعري، وكان لقريتي هذه، بما تكتنزه من جمال ريفي خلّاب، أثر ونصيب كبيران من شعري، وما أزال أحملها قارورة عطر في قلبي أينما ذهبت وارتحلت، رسمت لها لوحات شعرية عديدة منها هذه اللوحة:
/عندما كانت جنان الخلد مشروعاً برأس الخالق/جدَّ في التفكير كي يبدع تصميماً لحسن خارق/وسرى في الكون لاستجلاء ما أبدعه في السابق/..
فجأة لاحت لعينيه روابي قريتي من شاهق/ ترتدي ثوب ربيع من جمال ناطق..
أخذ اللوحة جذلان بقلب خافق/فرحاً يرنو حواليه، بعيني عاشق/ومضى يرسم شكلاً بانتباه فائق/فضلت قريتنا على جنة الله ببعض الفارق/قريتي أصل وإن كانت لها الأخرى كظل صادق/..
وعن بدايته مع الشعر والموضوعات التي يتناولها تحدث:
<< بدأ الشعر يتحرك كما يتحرك النبع في قلب الصخر، عاش على هامش حياتي في البداية، وعملي الوظيفي والتنظيمي شغلني عنه، ولكن بعد أن تقاعدت تفرغت له، وخاصة بعد انتسابي لاتحاد الكتاب العرب، فشعري اهتم بالإنسان والمجتمع، وبالحس الوطني والقومي، ووصف الطبيعة وخاصة القرية، ولكنني أسجن نفسي في المناسبة.
بدأت في كتابة الشعر منذ أيام الدراسة الإعدادية والثانوية، ولكن مع الأسف ضاع ما كتبته في هذه المرحلة، ولا أذكر من شعري في تلك الفترة، وفي المرحلة الثانوية نظمت قصائد عدة، لكنني لم أسجلها إلا في خمسينيات القرن الماضي.. وكان البناء الشعري لقصائدي في البداية يحتاج إلى الصقل، فأخذت حجارة أشعاري من مقلعها الطبيعي، واعتمدتها دون نحت أو تزيين، وكان هدفي أن أنقل أفكاري بأسهل وسيلة وأقرب طريق، وبلغة التعايش اليومي التي تحمل غبار الميدان، وحرارة المعاناة.. لكن منذ الثمانينيات تهيأت لي الظروف كي أنصرف أكثر وأكثر للحياة الأدبية والفكرية، فتوجهت للعناية بموهبتي الأدبية، وللدراية بالتقنية الشعرية، وأنا الآن متفرغ لهذا العمل، وقد أصدرت حتى الآن ثمانية دواوين شعرية، وأربعة كتب دراسات بحثية.

لست ضد الشعر الحديث
أما رؤيته للشعر بقديمه وحديثه فيوضح:
<< بالرغم من أن أشعاري عمودية المبنى، إلا أنني لا أتعصب ضد الشعر الحديث، بل على العكس أراه تعبيراً صادقاً عن حتمية التطور التاريخي، وإنني أحترم كل النماذج الشعرية، لكن العمودي أقرب إلى قلبي، وهو يمثل التراث العربي.
وكان ديوان  “العصفور الأخضر” أول إصداراته الشعرية، وبالتأكيد كان له وقعه الخاص في روحه وتجربته التي امتدت لسنوات طويلة ومازالت في تألق مستمر، فعن هذا الديوان قال:
<< “العصفور الأخضر” يمثل قلبي الذي بقي يوحي لي بالشعر طوال حياتي، القلب الذي سميته “العصفور الأخضر” وهو أول ديوان لي، وهو يحتل مركزاً هاماً في تفكيري وعاطفتي.
ولأن الشعر  انعكاس للحياة بكافة جوانبها فقد كان للأزمة التي تعيشها سورية أثرها على شعره، فيتحدث عنها الشاعر محرز بحسرة:
**لم أكن أتوقع أن تصل سورية إلى هذه المرحلة، فسورية أمّ الحضارة والتاريخ الأبجدي، ولكن الفكر الإجرامي الهمجي هجم عليها، إنه حقد الاستعمار على سورية، فهم يريدون إطفاء شمعتها، ولكن هيهات، فأمّ الحضارة لا يستطيع أحد أن يطفىء شمعتها ونورها.
ولم تقتصر تجربة الشاعر محرز على الشعر، بل أخذ يبحث في التراث العربي الإسلامي، ولديه كتاب في هذا المجال يحمل عنوان: “الإنسان في  ظلال القرآن” يحاول فيه الوقوف على حقائق في الإسلام أصبحت محط أخذ ورد في عصرنا هذا فيقول:
<< حاولت في هذا الكتاب أن أفسر الإسلام من خلال القرآن الكريم بما يتلاءم ومدركات هذا العصر، لقد آن لنا على ضوء الظروف التاريخية التي تواجهنا، أن نتجاوز التدين العاطفي المتجمد إلى التدين القرآني العقلي المتجدد، إن أعداءنا في الماضي هم أعداؤنا في الحاضر، اليهود، ومشركو العرب، ومنافقوهم بالأمس.. هزمنا اليهود عسكرياً، ولكنهم لم يستسلموا، تسلل بعضهم إلى صفوف الإسلام بإسرائيلياتهم ذات الطابع الخرافي، واستمرت مكائدهم عبر التاريخ، وها هم يعودون بصهيونيتهم لبناء حصون خيبرهم من جديد.. لقد انتصرنا بالأمس بوحدتنا، وتوحُّد جهودنا، وهذا هو الطريق لانتصارنا مستقبلاً، ولكن ذلك لن يكون إلا إذا تجاوزنا خلافاتنا، وأبعدنا الأوحال عن ينابيعنا الفكرية.. يتألف الكتاب من ستة فصول، سارت في ترابط منطقي، حيث ينتهي كل فصل بسؤال يجيب عنه الفصل الذي يليه.
ويتابع الشاعر محرز حديثه عن الشعر وتأثره الأول بشعراء سوريين لهم تاريخهم الشعري الخالد في سفر الشعر، والمتوارث على مر الأجيال فيعود بذاكرته إلى البدايات ويشرد بالحديث عن تلك المرحلة بنشوة فقال:
<< تأثرت بداية بحامد حسن ونديم محمد وبدوي الجبل، وأتفق مع الشاعر نديم محمد في تعريفه للشعر عندما سئل: ما الشعر عندك؟ فأجاب: “الشعر عندي موهبة، فشعور، فتعبير عن الشعور، فوزن، وقافية، وأسلوب وموسيقا، وروح، وعمق، ثم فن”..
أنا مع هذا التعريف النديمي للشعر ولكن دون التشديد على القافية، ومع التشديد الشديد على ذلك الشيء المجهول الذي يكمن في الشعر، وكما يقول شاعرنا الكبير بدوي الجبل: “الله وحده هو الذي يصنع الشاعر، بمعنى أنه يعطيه تلك الموهبة الخاصة التي تمكنه من تلقي الوحي الشعري”.. ففي الشعر نافذة ميتافيزيقية مفتوحة على الغيب، وكل شاعر يقتنص من هذا الغيب بمقدار ما تكتنز موهبته الشعرية من مقومات التنبؤ الرؤيوي.
وللشاعر محرز الكثير من الدراسات الشعرية يحدثنا عنها:
<<  من خلال اطلاعي على الكثير من الدراسات الشعرية، أنجزت أربع دراسات شعرية منها “الإنسان في ظلال القرآن” والتي أنتجتها البيئة الدينية المتحررة التي ترعرعت فيها، وكانت هذه الدراسة – كما قلت- رسالة إلى أصدقائي التقدميين لعدم ترك الدين، فهو حمّال أوجه، يمكن أن يكون للنهوض بالمجتمع وتطوره، ويمكن أن يكون لتدميره وتعصبه وتشدده، كما حدث مع الجماعات التكفيرية.. ودراسة أخرى عن الشاعر الراحل نديم محمد، بعنوان “حياة في مقتطفات”، حيث كان من حسن حظي أن الشاعر المرحوم أرّخ حياته الأدبية والاجتماعية وفق تسلسل زمني رائع منذ أن بدأ بكتابة الشعر عام /1923/ وحتى عام /1984/، مما ساعدني كثيراً في دراستي.. وأنا شخصياً اعتبر أن “بدوي الجبل” شاعر العرب في هذا العصر، أما “المتنبي” فهو شاعرهم في القرن العاشر، لذلك وضعت مقارنة شعرية بين الاثنين وفق دراسة في أجمل أشعارهم، أما آخر كتاب أنجزته في هذا المجال فكان عن  أبي العلاء المعري وكبرياء العقل الإنساني.
ويتميز نتاج شاعرنا بمساحة من التفاؤل، حتى أننا نلمس حضوراً واضحاً للمرأة في هذه المسيرة المعطاءة فيقول:
<< زوجتي كان لها الدور الكبير في حياتي الشعرية، فلولا وقوفها إلى جانبي، وتفهمها لطبيعة عملي وانشغالي بالشعر، لما وصلت إلى ما أنا عليه الآن، أما بالنسبة للمرأة فهي زهرة الحياة، ولا يوجد شاعر لا يحب الجمال الذي يتمثل بالمرأة، ولكن انشغالي بالقضايا الوطنية والإنسانية لم يفسح مجالاً للغزل والمرأة في أشعاري.
حوار: ميس خليل