ثقافة

عن الوجود والعدم

سأعودُ بعدَ مَوتي، طفلاً يختارُ الحياةَ بملءِ إرادتِهْ. سأعرفُ أمي مِنْ رائحةِ ابتسامتِها، مِنْ نَبضِ الحياة فيها، وأشاكسُ فَراشاتِ فُستانِها لأُبْعِدَها عَنْ مَسارِ الريح، وَلْأقهرَ الشيخوخةَ التي زارتْها كضيفٍ ثقيلِ الظِلِّ، سأُحدِّدُ للشمسِ ساعةَ يَقظتِها بتوقيتِ قلبي، لأنامَ مُرتَاحاً على راحةِ كفِّ الزَّمانِ، وأرى شخصَ الجمالِ في مَنامي، ثابِتاً، ناصِعاً كبياضِ قلبي، راسِماً وَجهي بريشةِ نَهْرٍ تُداعِبُ يَدايَ ليعلِّمَني السباحةَ ولأرفض إنْ حاولَ تَعليمي الرِّماية، فللجمالِ أناملٌ مِنْ نور، حريرُه جسدٌ يَنضحُ مِنْ مَساماتِهِ عِطْرُ البَخور، له لونُ الكَستناء، وعلى خَدِّهِ غَمزةٌ مِنَ السماء، تُرفرفُ غبطةً بما الحياةُ تَشدُّني إليه، لألتقيهِ وأبتسم، لأُبْعِدَ بهِ القَهْرَ فينهزِم، لأُخْرِجَ مِنْ قنديلِ أمي صَفصافةً تَهوى النسيمَ لتُدغدِغَ أطيافَ المساءِ الملساء، لأتهجَّى البحرَ مِنْ ذَيلِ الينبوعِ أنَ أركضُ وراءَهُ حافياً وتُربتي خضراءَ كاسمي، وكَفَّةُ الميزانِ تَعلو على وزنِ فِعال.
مِنْ سَنابلِ الرأسِ البيضاء يَنكشِفُ سَوادُ حِبْريَ المُمتدِّ حتى حَدودِ الليلِ الآسِر، لألتقي جدِّيَ البَحْر، هَادِراً بدمِهِ في شَرايينِ الوجود، أرضاً مِنْ أحلامٍ تَنْفُثُ الأقاصيصَ مِنْ نَرْجيلةٍ عَمياء.
لَنْ أستبدِلَ ما كانَ لي بما ليسَ لي، وما كانَ لي ليسَ لي، لا امتلكتُ نفسي ولا احتفظتُ بنبضٍ سوى نَبْضِ أمي، لأتعرَّف إليه في كُلِّ زَمانٍ، وإنْ ضَاقَ المكانُ أوِ استطال في عتمةٍ باردة.
جَدّي هو البَحْرُ، سأعيدُ بزَبَدِ مَوْجِه تَرتيبَ الأسماءِ مِنْ حَوْلي، لأحتفظَ بحُسْنِ البَهاءِ صُنْعَتي، وأُسدِّدَ الفاتورةَ مِنْ عشبِ أرضي، لا لونَ تَختارُهُ الطبيعةُ لصرختي، ولا صرخةَ لي، إلا ما اعترى الفضاءُ لوجودي مِنْ أخضرِ اللَّمساتِ، وأزرقِ الهَمَساتِ، وأبيضِ النَّبض طفلٌ أصاخَ السَّمْعَ لحكاياتِ العصافير، وانتبذَ عِشَّاً بَنَتْهُ سُنونوةٌ لتضعَ بَيْضَها وتُسمّي الكونَ لُعْبَةً مِنْ قشٍّ شَفيف، أختارُ مِنَ الغَيمِ ما يحلو لي فيه المقام، لأنهمرَ بعد هنيهة قَطْرَةً فوقَ دَمعةٍ سالتْ مِنْ عينِ طِفْلَةِ النَّهارِ الواثبةِ فوقَ أزهارِ الربيع، بَكَتْ إذْ تَاهتْ عَنْ دَرْبِ بَيتِها الريفيِّ الواقعِ على خَدِّ الرَّصيف.
سأتلو الحكايةَ، كَعرَّافٍ فاتَهُ ما قبلَ الزَّمان، حينَ كانَ الكَوْنُ حَرْفاً، واحِداً أحَدَاً، يُتلَى على ثَغْرِ الحَمام، والأنامُ كواكب تَسبحُ في فَضاءاتِ السَّلام، والحبُّ كانَ هَوْيَّةً، وقَضيَّة لا تُؤخِّرُ الأمامَ ولا تَستقدِمِ الوَراء، لا وَراءَ في كَينونةِ التَّركيبِ ولا لونَ يُخفي مِنْ عُمْقِ الغياب، لكنَّهُ وَقْعُ الخَطيئةِ على أبديَّةِ الحَرْفِ الوَحيد، ما إنْ شعَّ حتى خَبا، وهو في المهدِ وليد، فكانَ قَدَرٌ حَتْمِيٌّ للكواكبِ أنْ لا تَميد، هو الفَصْلُ الأخير مِنَ الحقيقة، ومِنْ بَعْدِهِ كُلُّ ما هو كائنٌ هوَ هوَ، تَكرارٌ لَطيف، يُعيدُ أَمْسَهُ بِغَدٍ حاضرٍ مُقيَّدٍ إلى صَخرةٍ في زاويةِ كَوْنٍ يُغنِّي للسَّراب، والأنا في كُلِّ طَوْرٍ بائسٍ تَخْلَعُ القَميص عَنِ القميص، هوَ سِرُّ حَيٍّ مَيْتٍ والسِرُّ حَيٌّ لا يَموت، لكنَّهُ السجينُ في صورةٍ يَغشاها الضَّباب، قَطْرَةٌ مَنفيَّةٌ هي الحقيقةُ ولا شيءَ سِواها، فهل سُتدرِكُ يا هذا ماذا فَعلتَ في الأُفق القَرين؟
هوَ ماءٌ وكُلُّ ما في الكَوْنِ سَيُدْرِكُهُ الفَناء، يَغْضَبُ حينَ تهدرَهُ عَبثاً وأنتَ تَلوكُ ضِحكتَكَ كَمُغَفَّلٍ لا يُدْرِكُ سِرَّ الوُجود، يَهْدُرُ مُبتسِمَاً ليدغدغَ أصابعَ الريحِ وأنتَ تَتلو الحمدَ سورة شُكْرٍ باقيةٍ إلى أَبَدِ الخُلود .
يَئِنُّ إذا مَا اسْتَنْزَفْتَهُ وضَيَّعتَ النقاءَ بأدرانِ عَبَثِكَ الطَّاغي الوَلود. يَستصرِخُكَ مَادَّاً رُفاتَكَ على جَناحِ قُبْلةٍ مِنْ ريحٍ يَنضجُ جرحهُ، ولا أثرَ لدمٍ ظاهر، لا صرخةً تَعلو المنابِر، أو تُهدهِدُكَ وغيرَكَ في المقابِر.
مِنْهُ تَكوَّنتَ، وبه تحيا، وبإسرافِهِ تَفنى، هو آخرُ مَنْ يُودِّعُكَ، قبل ارتداءِ الغُبارِ الأبيضِ في كُلِّ بَعْثٍ جديد.
يَصنعُ لكَ الحياةَ، ومِنْ بِئْرِ قلبِكَ تَنبعثُ رائحةُ الموت.
هوَ بُكاءُ الغَمامِ حين يفشي السِرَّ، ليُنقِذَكَ مِنْ جَفافِ مرآتِكْ المرآة.
كلُّ حَيٍّ لهُ انقضاءُ عُمْرٍ، إلَّاه.. لا انقضاءَ لهُ، مُمْتَدٌّ، لما بَعْدَ الحياةِ بحياة.
هوَ الشتاءُ، للسَّماءِ، لِـمُقلتيَّ، ولِكُلِّ عَيْنٍ وَعَيْن
يَنوجدُ الوجودُ بوجودِهِ، وغيابهُ تَكثيفُ العَدَم.

نضال كرم