ثقافة

“الأنبياء” الزرق

كنت جالساً في أحد الملتقيات الثقافية إلى الأستاذ الكاتب والصحفي جورج حاجوج نتحدث عما فعله “الفيس بوك” بالكتابة عامة والشعر خاصة، فقال لي حينها جملة أستحضرها وأنا أقرأ بعض مفرزات العالم الأزرق قال: “الفيس بوك فضاء رحب ومفتوح للجميع، ولكلّ الحق أن يكتب ما يشاء ويدوّن ما يشاء، ولكن هذا لا يمنع أنني، شخصياً، أجد نفسي مضطراً لأضع إصبعي في فمي وأتقيأ أمام ما أقرأ”. هذه العبارة استطاعت أن تعبر عن كل ما أشعر به حين أدخل إلى الكهف المفتوح “الفيس بوك.”
لدى كل واحد منا حساب خاص على “الفيس بوك” يطرح من خلاله ما يريد بكل ألوان التعبير، دون أن يمنعه أحد، فيستخدمه إما لإيصال رسالة والوصول للآخرين أو لمجرد مواكبة الحدث والكثير من “طق الحنك”. لكننا ومنذ انتشار هذه المواقع ونحن نعاني من ثقافة التعاطي معه وبأي عين يمكن أن ننظر إليه. لقد قدم لنا الكثير على الصعيد الثقافي وشكل منبراً كبيراً لكثير من الأدباء، لكن الحصة الكبرى كانت للشعر فاستبيحت حرمته كيفما اتفق. وإن أكثر ما يثيرني هو تلقي دعوة من صديق لأبدي إعجابي بصفحة تخصه أو تخص صديق\ة من أصدقائه، والمشكلة لدي تكمن في تسمية الصفحة باسم “الشاعر” فلان..أدخل إلى الصفحة لأقرأ الدرر الثمينة لهذا النبي الأزرق، فالشاعر لدي مقترن بحالة النبوة كما يراه العظيم هوغو، أنتهي من المنشور الأول بسرعة وأنتقل للثاني وأتوقف، لأجد تعبير “نفايات شعرية” التي قالها يوماً نزار قباني في آخر لقاء تلفزيوني له عن قصيدة النثر تنطبق تماماً على ما أنا أمامه طبعاً مع اختلاف المضمون. فكم ضاع منا الشعر اليوم مع هؤلاء المستشعرين فإنتاجهم مقعد الإبداع، ركيك الأسلوب، سطحي المعنى، عقيم الخيال، ضعيف اللغة. ناهيك عن التكرار والسرقات الأدبية التي تجدها أمامك فتشعر أحياناً أنك فقدت حُليماتك الذوقية لا تستلذ بمعنى أو تدهش لجمال. الشعر موهبة واجتهاد شخصي في صقلها، والقراءة لا تقل أهمية عن الكتابة التي هي تحصيل حاصل لها، والتذوق الشعري للذات بموضوعية مهم جداً، والبحث عن المتلقي الذي يستطيع ضخ روح الأمل والنجاح فينا أمر ضروري ولازم، لكن أن تصبح الكتابة مجرد” صف حكي” ونطلق عليها تسمية “شعر” ونحاجج بأرقام اللايكات، وعدد التعليقات وأصحاب هذه التعليقات على أنها شعر فإننا في آخر عصر، وقد خُلِعَت عن الشاعر عباءة الكهنة كما يراه المبدع الإنكليزي “شيلي”: “الشعراء كهنة الوحي الذي لا يدرك، هم مرايا الظلال الهائلة التي يرميها المستقبل على الحاضر.”
إن وجود هؤلاء الأشخاص المستشعرين وأخص الإناث، فهي الحاصلة دوماً على أكبر عدد من الإعجابات ولو نشرت حرف علة، كشف عن مدى فساد الوسط الثقافي وتدني سويته الثقافية فلابد من أن تصطدم ببعض الأسماء التي قد تكون كبيرة موجودة هناك تساهم في تضخم هذه الحالة المستشعرة من خلال الضغط على “أعجبني” دون إدراك عمق هذا الفعل وكم يعبر عنا وعن ذائقتنا. ومثقفو هذه الأيام لا يهتمون لما يقرؤون بقدر ما يهتمون لشكل الكاتبة عندما تكون أنثى أو العلاقات الشخصية التي تربطه بهذا الشخص عندما يكون رجلاً.
حتى اليوم نحن نعاني من أزمة “ثقافة اللايك” ولا ندرك خطورة ما نقوم به آخذين الأمر على محمل المزاح والمسايرة الاجتماعية، وهذا ربما يكون جائزاً عندما يكون المنشور عاماً لا يحمل صفة أدبية، غير مدركين أن هناك جيلاً كاملاً أصبحت حياته كلها زرقاء وافتراضية، يتعاطى بلغة “اللايك”، يعاتبك إذا لم تعجب بما كتبه، ويأخذ منك موقفاً إذا لم تعلق له على منشوره وأنت صديقه المقرب في الحياة، وقد ينهي علاقة حب لأن شريكه لم يقم بمشاركة آخر منشور له على صفحته الخاصة.
خضر مجر