ثقافة

قرن النقد الأدبي: كمال الضرورة أم جماليات الترف

ثمة وصف نستعيده الآن وقد قيل على لسان الفيلسوف الأميركي «ريتشارد رورتي» أن القرن القادم هو قرن النقد الأدبي، ونتساءل فيما بعد هذا القول عن حال النقد العربي سيما في مشاهده الأخيرة، فهل أصبح في جزر معزولة أو كناية عن «طقوس شعبية»، أو ممارسات مدرسية لا تتجاوز بضعة جدران، إلى الحد الذي ذهبت كتابات بعينها إيغالاً في التوصيف والاستشراف المضاد لتقول: «النقد غابة الأحزان» أو في سياق آخر يستوي الكلام عن محنة النقد وضروب ممارساته المختلفة ما بين الجامعة والصحيفة والندوة والملتقيات الأدبية، وأكثر من ذلك يجري النظر إلى النقد كأنه فعالية مستقلة عن الثقافة والفكر والتطورات بزخمها التقني المعرفي الإجرائي، ومن الواضح هنا أنه ما لم تكن ثقافة مؤسسة أولاً لا يكون ثمة تجلٍ لأيما إبداع، والثقافة المؤسسة بهذا المعنى هي نتاج مكونات اجتماعية وفكرية وتاريخية وإنسانية، حيث أن هذا النتاج يؤشر على التراكم المقصود وما يسفر عن التراكم في طبيعة الأنواع الإبداعية المنتجة، هكذا نسائل الثقافة بوصفها الكل الجامع وليس بوصفها معزولة هي الأخرى عما يجري في العالم.
وبهذا المعنى أيضاً، يحيلنا السؤال إلى ماهية المشهد النقدي العربي بأسره، فهل أصبح في مستوى القطيعة والتقوقع ومغامراته الذاتية انفصالاً أو اتصالاً عن العالم في ظل الوسائط الجديدة –التقنية- التي أتاحت هدم الكثير من الحواجز وتجاوز الرقابات والمعايير، فقد انقلب إلى أنساق جديدة مسكونة بوهم المغايرة لأنساق قديمة إذ طرحت قيماً جديدة في سوق التداول الثقافي بشكل أو بآخر فالتخفف أو التطير من سلطة المعايير أصبح غاية بذاتها، إذ غامت الحدود الاجناسية في أشكال هجينة لا هي تنتسب إلى جنس بعينه، ولاهي «تتمرد» عليه لتُضيف قيمة جديدة لما ندعوه بالتجاوز، ومرد هذا «الخرق» يعود للمعرفة بذاتها، فهي ليست ترفاً عابراً، بل هي أكثر من ضرورة، ولا يمكن بأي حال الاستعاضة عنها بما يشبه المعرفة أو يتوسلها، فهي المعادل الموضوعي لنصوص الإبداع كافة، ولطالما نحن في سياق أزمة النقد وخطاب النقد وممارساته، لا بد من القول تالياً وإزاء «التشظيات» و«الشذريات» التي طاولت ممارساته في العالم الآخر «الغرب» باحثة عن أنساق جديدة تحررها من عبودية المنهج واستلاب النظريات لتُنتج في دورة حياتية مفتوحة ما يمكن أن يصل بها إلى تعبيرات قائمة أصلاً على متغيرات النوع ودلالات الأثر، وتغير وظيفة القارئ دوره وموقعه ورؤيته، بوصفه الشريك المثالي لصانع النص، ليس من الغريب هنا أن تفوز روايات في مسابقات عالمية كالبوكر مثلاً، إذا عرفنا استقراءً واستنباطاً ما تذهب إليه مقولاتها، من إنتاج «لوجودية» جديدة أو الاحتفاء بالتفاصيل اليومية بطريقة أكثر ابتكاراً والتقاطاً، أو اختزال قضايا كبيرة في بنى رمزية تنعكس على بنى النص الفنية، ولعل البنى الفنية هنا هي ما قد تعول عليه معظم أحكام القيمة اللا منتهية إزاء الأنواع، وهنا بالضبط تتضح مقولة نقاء النوع الأدبي من أنها مقولة ملتبسة ويصعب تحديدها على وجه الدقة، فنقدنا العربي الذي انكفأ في معظمه على ما تبقى من البنيوية وجدل ما بعد البنيوية، ما زال يبحث عن هويته في عالم فتح كل حدوده، وسمح لما يعبر اللغات والحدود لأن يصير حقيقة وليس على سبيل المجاز، فإذا كانت الحاجة ماسة لأن يعاد النظر على مستوى مؤسسات النقد، فهي بالتالي حاجة إضافية لأن يعاد النظر في مؤسسة النص وخطاب النص وهذا يستلزم من المبدع العربي أن يستعيد دوره ككائن معرفي لا يختل توازنه بفعل انزياح المراكز أو تغول الأصوليات ونزعات العداء والشر والعنصرية عبر العالم، لأنه ومن خلال رؤية لذاته ولنصه وللعالم الجدير بإنتاج رؤيا لا تفسر بقدر ما تسعى للتغيير، وهذا التغيير ما لم يرتبط بفهم واعٍ لأصالة الكلمة وبلاغتها الجديدة إزاء ما ينتقص من إنسانيته فيما يجري في عالم باتت أكثر أوهامه إعلان موت الإنسان بإشغاله على الدوام بما يقوض خلاصته الوجودية بأن يكون له خصوصية تعبيره، هذه خلاصة غير منتهية لصورة الغرب الذي بدل موضعة الاستعمار من الأرض إلى العقول والثقافات بدلالاتها الوطنية لا سيما، ذات أمسية أدبية تساءلت مبدعة ما معنى الحداثة، سؤال أحسب أن الإجابة عليه ستعيدنا لذات السياق وثنائيته الفادحة، حداثة أم حديث؟!.
أحمد علي هلال