ثقافة

الحياة التي مرت جانبي فرأيت

اعرف نفسك بنفسك، لم تغوني تلك المقولة في طالع فتوتي، ظاناً واهماً بأن الأيام كفيلة بأن تعيد لي ذلك الاعتبار المعرفي الذي فقدته تدريجياً كلما أدار لي يوم ظهره ليومٍ يليه، وكلما اختطفني نومٌ من وهمٍ ثقيل، وأسلمني لوهمٍ ثقيل آخر، فرغم الحيرة التي رافقت يوم استدراج أنفاسي الأولى بأوهى الحيل إلى مخادع الضوء؛ حين لم يستطع أحد أن يخبر على نحو شبه أكيد إن كان في السابع من آذار لعام 1977 تقول صاحبة الشأن التي ورطتني بالحياة كما يورط الملك بالعزلة والحديقة بالشجرة: قالت صاحبة الشأن: “ولدتَ صباح ذاك اليوم متردداً، وكأنك لا تريد المجيء إلى حيث لا متسع لنمو الأحلام” أو في الخامس عشر من أيار من العام نفسه، تقول بطاقتي الشخصية التي صارت وعلى نحو مباغت، لزغب نبت على خجل في وجهي، وحول ذئب فرزدقي الوحيد، هي الإثبات بأنني على قيد الحياة، في عالم تُختزل فيه حياة الإنسان إلى مجموعةٍ من الأوراق الثبوتية..بطاقة شخصية، بطاقة امتحانيه، شهادة ثانوية، شهادة تأدية الخدمة الإلزامية، جواز سفر لم أستخدمه، وأوراق أخرى دونها أصير على قيد النسيان، أيامي معدودة وقبض الريح ما فعلت.
رغم تلك الحيرة إلا أنني وجدتُ بعد علاقة آثمة بالسنين والأيام والدهور والفصول، أنني ولدتُ في اليوم الموافق لخروج أبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس من غرناطة، متوّجاً بالحسرة والخذلان، في عام النزوح المرير نحو الجبال والشعاب، دون دليلٍ إلا الألم هرباً من خوازيق السلطان سليم الأول، حاملاً في دمي وحشة أجدادي اللائذين بالسماء والأولياء من ميلان النهار، مستأنسين برائحة حيوانٍ مفترس، وأي شيء يدبُّ على أربعة فوق الأرض إلا الإنسان، الخوف لا الرغبة أو ربما الخوف من الرغبة هو من روّض أنفاسي، وأعطى لأيامي ذلك الطعم المائل للندم، وأنا أتحايل على الحياة، أو أتقرى طالعي في ماضٍ ملأ ناظري إلى الزوال.
كنتُ لا أكف عن التساؤل بيني وبين نفسي كلما صعدتُ تلك الطرقات الترابية الضيقة، المؤدية إلى شبح بيتي على أطراف دمشق، وأنا واقعٌ تحت شعورٍ باهظ بأنني سأعاود استخدامها مراراً ومراراً إلى ما لا نهاية، حتى إلى السماء، أو نحو الجحيم؛ سأسلكُ الطرق الترابية الضيقة ذاتها، الطرق التي أنشأتها الصدفة، وغرابة الأقدار والأقدام، اسأل ماذا بعد كل ذلك؟ ماذا بعد التسامق والحدة والخوف والرغبة؟
ذاهباً نحو أربعيني، جاهداً في تخليص ذاكرتي من السخط والرضا، من ضربات الفقد الموجعة للمبهم والغائم حين الاستدعاء، والواضح الحاضر كما الرنة في الأنساب، عندما يؤتي أُكُلهُ النسيان، أتاني الجواب مغسولاً بأمطارٍ ورعود من جدي امرؤ القيس: كلهم أروغ من ثعلب، ما أشبه الليلة بالبارحة، أسندتُ ظهري بحيلي المهدود إلى جذع أمنيةٍ وأنا استرجع ببطء مشهداً رواه لي أبو الطيب، حين أشعل رأسه الحنين إلى حلب بالشيب، بعدما ضاقت مصر بأنفاسه ونعاسه:
لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ         أقفرتِ أنتِ وهن منكِ أواهلُ.
عندها طفقت يديّ بالبكاء وأنا أربتُ على كتفه مشيعاً إياهُ إلى بيت صديقي محمود درويش، عاشق الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلا، شارحاً لهُ حرجي من ضيق بيتي الذي لم يتسع أمامه، ضحك محمود مردداً: “وحين أعود للبيت وحيداً فارغاً إلا من الوحدة، ويديّ دون أمتعةٍ وقلبي دونما وردة” هامساً في سري: إن الأصدقاء كلهم ضيوفٌ في أبياته.
مسني طائف من هجير، واسترقني ما أوحى إليّ بأجراس الغواية، من شاهق يقظتي، فآويت إلى قاسيون عزلتي، وبي ما بالمريض من حمى السهر المطعون بأنين، تتلو شفتاي دوني لأترابي: ليس الهواء نديمي إن أنا أجلستُ الصيف في ثنية الكُم مفرجاً عن قمر عزلتي مشنوقاً بعروة، فعرفتُ أن لا خلاص لخطوي من حرائق القلب، ومن الوعود التي لا تموت ولا تحيى، ولا خلاص لأصابعي من بلبلة المواعيد، ومرارة الكأس، لا خلاص ليدي من خواء ادعى وصلاً ولا قرار لهاويتي، لا سماء تظلني، ولا أرض تحملني إلا بالشعر، من رمى لي بخشبه لأنجو، كأنني أرد لأفلاطون صفعته سداداً لدينٍ قديم أورثني إياه أجدادي الشعراء، عندما طردهم من جمهوريته الخائبة، حيث أن لغتهم حسيّة تقود نحو دلالاتٍ موجودة سلفاً، غائباً عن باله أن الشعر موجودٌ في كل شيء، في الفلسفة التي لا تقبل مع فكرها، وعلى مستواها سوى الشعر، بالمعرفة التي يؤكدها وينفيها الشعر، بالموسيقى، بالمرأة، بالحياة، بالإله، بالكلام الذي لطالما اعتبر بمثابة إلهام مستوحى من الآلهة، لمقدرته على قلب مفهوم ومجرى الأشياء، الشعر المهموم منذ رامبو بإخماد الواقع الفظ، وبالكشف عن الروح الطاهرة تحت قشرة الأحجار عند نيرفال، الشعر الذي ينهل من اليومي، الفلسفي، الأسطوري، الشخصي، بأشكاله المتعددة التي تغنيه، وبالاختلاف الذي يمنحه تلك القيمة المثلى.
قادني الشعر من أطراف نواجذي إلى مسارب الحياة، ومسالك لهوها وعدمها، كان دليلي إلى الحب، ودليلي عليه، أرثي لطفلةٍ أصابتها لوثته: قالت بلقيس، ورددت مريم: “بابيتو شعرك فيه تلج، بابيتو بدي أرسم مرجوحة وأتمرجح عليها”. وقعت كلماتها على خيالي، فاستعدتُ صورة الصبي الذي كنته، ولد أدونيس السوري الراكض في ذاكرته، المنحني على مقعده محدودباً، وفي يديه وفي غفوته، تطير حمائم الأخيلة، وتتربى اللغة في قلمه، كجديلة بنتٍ في خاطر مشط، نالت عصا المعلم من كفيّ، وحزام والدي العسكري، ذي الإبزيم النحاسي، من الأقدام الرطبة الخائضة في بُركٍ من وحل ضواحي دمشق الذي يعلّم في القلب، أكثر من القدم، بحذاءٍ نصف مهترىء، بأجنّةٍ طبعت عليها صورتهم، لا حلم لها إلا بنجمةٍ تربو على كتف.
كبُر ابن أيامي بين أحضان الحسد وألفة الفاقة، ونصف دفاتري، وكتبي متورطةٌ سطورها بأيروتيكية نزار قباني، وأنشودة السياب المطرية، بغرائبية بودلير، وأحلامه المصنوعة من حجر، بالقول الثقيل، وما ألقاه عليه النص القرآني في ناشئة الليل، إلى صوفية المكزون السنجاري:
بدت لعيني بالستور والكلل              ثم اختفت برفعها عن الُمقل
غزالةٌ بين الصريم واللوا                 علمني الوجد بها نظم الغزل
هي الحياة من علمني حبها نظم الغزل، الحياة التي مرت إلى جانبي طويلاً، فمسّتني فرأيت “وما كذب الفؤاد ما رأى” الحياة التي لم تعلمني إلا الشعر، والشعر ما علمني إلا الحياة.
تمام علي بركات