اقتصادتتمات الاولى

بين الموضوعية والذاتية.. وتوجّه معظم تجارنا إلى مستوردين لا مصدّرين صادراتنا بحاجة لاستراتيجية وطنية ترجّح كفتها أمام وارداتنا في ظل غلبة “تجار المراسلة”

التجارة شطارة… عبارة طالما تغنى بها شيوخ كار تمرّسوا عبر تاريخهم التجاري الطويل بأصول مهنة أس رأس مالها الصدق والنزاهة، والالتزام بمواعيد ومواثيق قطعوها على أنفسهم أمام عملائهم المحليين والعالميين، إضافة إلى تفعيل عجلة اقتصادهم الوطني ودعم ميزانه التجاري عبر التركيز على التصدير أكثر من الاستيراد من خلال البحث عن أسواق جديدة تستوعب المنتجات والصناعات المحلية، والوصول في نهاية المطاف إلى توطين التصدير كنشاط وركن أساسي في المشهد الاقتصادي الوطني…لعل هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة (شطارة) التي اقترنت بـ(التجارة).
انحراف عن المضمون
يبدو أن مفهوم الشطارة في الوضع الراهن انحرف كثيراً عن جوهره الأصلي متخذاً مساراً جديداً خطّه بعض شيوخ الكار الجدد الذين لم يرثوا مهنة الأجداد على أصولها، معتمدين المعنى الأجوف للكلمة الذي لم يتعدَّ حدود جمع أكبر قدر ممكن من المال بغض النظر عن أي أسلوب أو طريقة يبرّرها محبّو الثروة ولو كانت على حساب المستهلك الذي يعتبر الحلقة الأضعف في سلسلة العملية التجارية كلها، مفضّلين الاستيراد على التصدير الذي -على ما يبدو- قد خرج من قاموس معظم التجار لاعتبارات بعضها مرتبط بالأزمة وما أفرزته من تداعيات لها علاقة بحاجة السوق المحلية للسلع والمواد الأساسية، وبعضها الآخر يمتدّ إلى سنوات ما قبل الأزمة وله علاقة بضغط التكاليف وتوفير الجهد والعناء، لدرجة أن أغلب تجارنا تحوّلوا –حسب بعض المراقبين- إلى وكلاء اكتفوا باقتناء فاكسات يراسلون عن طريقها الشركات المتعاملين معها في الخارج لتقوم الأخيرة بناءً على مضمون الفاكس بإرسال الطلبيات إلى المرفأ، وعندها يأتي شيوخ الكار الجدد لاستلامها وتوزيعها على الأسواق المحلية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السفر أو حتى معاينة البضاعة في بلد المنشأ، ما حدا ببعضهم إلى تسميتهم (تجار المراسلة)، داعين إلى وجوب إعادة النظر بمفهوم التاجر السوري ولاسيما في ظل تحوّل أغلب صناعيينا إلى تجار، ناهيك عن أن تصدير المنتجات السورية وخاصة إلى دول الجوار ينشط في كثير من الأحيان طرداً مع نشاط التجار غير السوريين ولاسيما العراقيين والأتراك الذين يشحنون بين الفينة والأخرى البضائع السورية إلى بلدانهم.

تبرير
لم يعتبر أحد المعنيين الرسميين بالتصدير أن زيادة المستوردات مقابل الصادرات مؤشر على أن التجار السوريين أشطر بالاستيراد منه بالتصدير، موضحاً لـ”البعث” أن لهذا مبرراته من قبيل أن عدم كفاية إنتاجنا المحلي يضطرّنا إلى الاستيراد ولاسيما أن إنتاجنا المحلي ربما لا يلبي بالضرورة متطلبات سوقنا، وبالتالي لا نستطيع أن نحدّد إن كان التاجر السوري بارعاً في الاستيراد دون التصدير بطريقة علمية ومنطقية، مشيراً إلى أنه من الناحية المنطقية يحق لكل شخص في سورية أن يعمل في مجال الاستيراد، ولا يمكن تقنين العاملين في هذا المجال بهدف زيادة قيمة الصادرات، لكن يجب اتخاذ إجراءات تشجّع صادراتنا وتحدّ قدر الإمكان من مستورداتنا بطريقة علمية وقانونية، مؤكداً أن سورية تعتبر من أسهل دول العالم من جهة القوانين المتعلقة بالاستيراد والتصدير، ومشيراً إلى عدم وجود قيود على الاستيراد والتصدير إلا بالحدود الضيّقة جداً وتطبّق في الحالات النادرة نسبياً.

غلبة واضحة
لاشك أن لغلبة الاستيراد على التصدير عوامل وأسباباً لها علاقة بحيثيات وخصوصية كل منهما، لعل أبرزها أن الأول أكثر سهولة من الثاني الذي يحتاج إلى جهود وعمل منظم وعلاقات خارجية يصعب على التاجر العادي القيام بها، إضافة إلى أن اتخاذ قرار للقيام بالاستيراد هو قرار فردي يتخذه التاجر وحده حسبما أكده لـ”البعث” الاقتصادي الدكتور علي حسن، بينما قرار التصدير يحتاج إلى شركاء في الخارج، لذلك نجد أن حركة نمو ونشاط الاستيراد أسرع من نظيرتها بالنسبة للتصدير الذي يحتاج إلى جهود كبيرة وسبر للأسواق ومشاركة بالمعارض وشركاء بالخارج، وحملات ترويجية وتسويقية، وهذا يستدعي تكاليف مادية، مضافاً إليها خروج عدد كبير من المنشآت الصناعية من الخدمة نتيجة الأزمة الحالية وأعمال التخريب الناجمة عنها، ما رجّح بالتالي كفة الاستيراد على حساب التصدير.
لا يتفق حسن مع الرأي القائل إن مفهوم التاجر السوري أُفرغ نسبياً من مضمونه ليصبح أقرب ما يكون إلى مصطلح وكيل منه إلى تاجر، لأن التاجر السوري له تاريخ طويل وعريق في التجارة منذ طريق الحرير، لكن خلال السنوات الأخيرة التي سبقت الأزمة ونتيجة لفلسفة الاستهلاك والانفتاح التجاري بشقيه الداخلي والخارجي وتحرير التجارة واحتدام حدّة المنافسة وغير ذلك من مفرزات العولمة الاقتصادية، ثم جاءت الأزمة بثقلها مترافقة مع العقوبات الاقتصادية على اقتصادنا الوطني، كل ذلك ضيّق الخناق على التاجر السوري وعرقل حركة التصدير.

استراتيجية
لاشك أن كل الاقتصادات تصدّر وتستورد، لكن الاقتصاد الأقوى والأكثر تنافسية يصدّر أكثر مما يستورد، والعكس صحيح بالنسبة للاقتصاد الأقل تنافسية، والذي ثبت في قطاعنا التجاري أن المُصدّر دائماً –للأسف- هو أضعف من المستورد، وحتى من ناحية الدعايات والحملات الترويجية نرى أنها بالنسبة للسلع المستوردة أقوى ومنظّمة ومدعومة أكثر من تلك التي يقوم بها التاجر للترويج لبضاعته في الخارج من أجل التصدير، ولعل مردّ هذا الضعف يعود إلى أسباب موضوعية، وأخرى ذاتية، فالأولى تتمثل بملاقاة الاقتصاد السوري تحدّياً كبيراً وسريعاً خلال العقد الأخير نتيجة ضعف تنافسيته ومحدودية إنتاجيته في ظل الانفتاح الاقتصادي، مضافاً إليها الأزمة والعقوبات الاقتصادية الأخيرة، لذلك كان من الصعب أن يكون الاقتصاد السوري ندّاً لاقتصادات متطوّرة وذات تاريخ عريق.
ومن الأسباب الموضوعية أيضاً الظروف الاقتصادية التي تصيب الدول الأضعف أكثر مما تصيب الدول الأقوى، ومنها ارتفاع أسعار البترول والنقل والظروف المناخية والأزمة العالمية التي أصابت كل الدول وكانت أكثر إيلاماً للاقتصادات الأضعف، وسورية من الاقتصادات الأضعف مقارنة مع بقية الاقتصادات، إضافة إلى أن كل دول العالم وحتى ذات النشاط التصديري الأقوى في العالم أصبح نشاطها أقل من العادي نتيجة ذيول الأزمة العالمية.
أما الأسباب الذاتية فتتمثل بعدم تطوير قطاعنا التجاري العام والخاص من ناحية السرعة والوتيرة اللازمة مع تطوّر التحديات التي تواجهه، ولا من ناحية زيادة الإنتاجية والقدرة التنافسية، وضبط التكلفة وسبر الأسواق والتعاون مع الأسواق العالمية بفكر متطور وبشكل منظم لكي يصبح أكثر ندية من السابق، وبالتالي هذا يضع المعنيين بشأن صادراتنا على محك وضع استراتيجية وطنية تأخذ بعين الاعتبار هذه الأسباب والمعطيات المحيطة بها ودراستها بحيث تحقق قدر الإمكان التوازن بميزاننا التجاري على أقل تقدير.
دمشق – حسن النابلسي