ثقافة

الأرض قصيدة وأكثر..

من الذكرى إلى الذاكرة..إنها الأرض مثوى كينونتنا، منذ شقت الآه فضاء الصمت وكانت الأرض ولم تزل آيتنا في الآفاق، كانت الأرض صورتنا ونبض رؤيتنا لتظل استعادتها حقيقة، وأجمل منها أن من ذهبوا كخط دفاع ذكي عنها، أقاموها أعراساً سماوية كما أسطورة ترويها أسطورة وفي مجازها الأخير، صورة شعب لا يستكين، هو المُنزرع في ترابه الأزلي، هو العائد وتلك صورته الأخيرة ولعودته أشكال احترفها الشهداء وهم يلجون أزمانهم الأخرى، الأرض هوية شعب لا مجازه فحسب وما تبقى له من تاريخ يستمر، وكفاح يتواتر عبر أجيال وأجيال، لهذا نستعيد الذاكرة كلها الآن هنا، الآن هناك وسيظل الهتاف: الأرض لنا وحتماً سنعود، نرفعه على الرماح، ليخفق في النشيد الوطني.. هذي بلادي كيف يبرأ الشجر والحجر وحبات التراب وذرات الماء وهديل اليمام ولون البرتقال من ظلال زنيمة، كيف تبرأ الجهات من ظلام سادر، كيف تغدو الكلمات معراج النشيد لنعود، أو حقاً لنعود.         يوم الأرض هو يوم عودتنا، وليس مجرد الاستذكار ما يستدعي زمناً لا يشبه زمناً آخر، وفي مراياه جهر شهداء الأرض شهداء هبتها المجيدة في آذار، ذات شمس عالية، ذات نهار بالغ الصحو، بأننا ملحها، وبأن دمع البحار مازال مالحاً، وبأن الأشجار تموت واقفة لكنها هي الواقفة أبداً في مهرجان النار لتستظل بها نهارات قادمة.
تلك الأرض مهماز الوعي والوجود في مرايا الفلسطيني، ناهضاً بكل لحظاتها، شهيداً عائداً لدفء ترابها المقيم أبداً في ذاكرتها، وللأرض ذاكرة على المطلق هي ناسها الذين لم ولن ينسوها يوماً لأنها كل صيروراتهم، فلن تُقتلع من الذاكرة، ففي صورتها/ سيرتها كل ما تختزنه اللغة من شراراتها وإشاراتها لتنهض الروح أبداً وتبث الحياة على أرض تستحق الحياة، كما هم أهلها من يستحقون جدارة الحياة وهم الذاهبون إليها شهداء وأحياء، فالأرض تقاوم لتكون ذاكرة الشمس وهي من حفظت خطا الشهداء والرجال، خطا أهلها المسكونين بها رغم ألف ليل وليل والغزاة لا يقرؤون، هم محض عابرين على ترابها حينما يمتص التراب ظلالهم، فهي الخصيبة الشهية الواسعة لمن احترفوا نشيدها، فظلوا صورتها الأخيرة وتراتيلها المفتوحة على مطلق الكلمات والبنادق، ليست هي متخيلنا الذي نخترعه كما هو شأن كل الغزاة الذين عبروها، هي أبهى من حقيقة فلسطينية تماماً كفجر المرايا الصادقة، وحينما يعود الشهداء إليها ذات صباح، تعود لتنفض عن ترابها غبار أزمنة لا تشبه إلا ذاتها، يعود عاشقوها كأقمار عالية تبث الضوء في أوصالها ولتنهض الأرواح على امتدادها، وعلى امتداد الأرض التي بورك حولها، إنها لحظة القيامة التي امتدت في أزمان تالية، انتفاضة روح ومواجهات مديدة في أقصاها، يا لبلاغة لحظة فلسطينية مجيدة حينما تظل الأزمان الأخرى رجعها، في المثلث وفي عرابة وفي الجليل وفي النقب وفي الأرض كلها، كانوا خط الدفاع عن الروح الباقية وكانت أسماؤهم الحُبلى بالأعاصير وبالعواصف وبمجد نهاراتٍ تؤسس زمناً طالعاً من وهج جرح مازال طرياً دمه ليرسم في كل بدء شكل الخريطة من جديد، ويعلن على الملأ أن ثمة شعباً حاضراً بأجياله كلها.
لا ينطوي آذار في نهاره على ذكرى لأرض كانت ومازالت قصيدة، شيئاً من الغضب حتى يستوي النبض المقيم في خلايا التراب وفي جينات الماء وفي عروق السنابل، حتى يستعيد الربيع ربيعه، «في شهر آذار، في سنة الانتفاضة قالت الأرض أسرارها الدموية، في شهر آذار مرت أمام البنفسج والبندقية خمس بنات وقفن على باب مدرسة ابتدائية واشتعلن مع الورد والزعتر البلدي، افتتحن نشيد التراب… أنا الأرض والأرض أنت.. في شهر آذار زوجت الأرض أشجارها».
وقالت الأرض ما لدى مخيلة الليمون، وباح النرجس بما يشتهيه، فكم تشبهنا الأرض لنشبهها، وفي ميراث الغضب كثير من الغضب إذن، حتى يستوي الحلم على الأرض وتستوي الأرض حلماً، وللأرض ميعادها، الأرض كروية كما في المبتدى، الأرض من تقول لكم كل حكايتها فإن تجددت، هي ذي.. قمصان آذار الجديدة شاسعة وملونة بما يكفي قصيدة، هي للأرض كل ما اتسعه الكلام وفاض به نهر الأغاني، فسلام على الراقدين هناك لكنهم من ظلوا أحياء في صيرورة الغضب المقيم والروح التي تجدد الآن شكلها ومقامها.
أحمد علي هلال