ثقافةصحيفة البعث

صبري مدلل.. مؤذن حلب الذي نشر التراث والتواشيح

كان الصمت يسود حلب الشهباء حينما تصغي إلى صوت صبري المدلل وهو يرفع الآذان للصلاة في مسجد بني أمية الكبير،والذي طالته يدّ الغدر إذ خرّب الإرهابيون كلّ أركانه،هكذا بدأ الباحث وضاح رجب باشا محاضرته “موسيقا الزمن الجميل” في (أبو رمانة) والتي خُصصت للفنان صبري المدلل،الذي ارتبط اسمه بسيرة حلب بعراقتها وأصالتها والذي جال العالم ينشر التراث الحلبي والديني،برع بالارتجال والتنقل بين المقامات والتمكن من حفظ طبقات صوته المنخفضة والمتوسطة والمرتفعة،تتلمذ على يد عمر البطش وتفرد بصوته وأدائه الرائع،غنى في الزوايا والتكايا والمساجد، كان أقوى من الزمن كما قال عنه سهيل عرفة:”انتصر على الزمن”،إذ استمر في الغناء حتى بعد الثمانين،أسس عدة فرق للإنشاد الديني، وأنشأ سهرة السبت التي صارت علامة فارقة تميّز حلب،لحّن الكثير من الموشحات وكرّمه السيد الرئيس بشار الأسد على عطاءاته النبيلة،كتب عنه كثيرون منهم محمد قدري دلال بكتابه (شيخ المطربين صبري المدلل وأثر حلب في غنائه وألحانه).
الآلات الوترية
بدأ الباحث محاضرته بالحديث عن نشأة مدلل الذي ولد عام  1918 ونشأ في أسرة تقليدية أجاد تلاوة القرآن الكريم وتمكن من علومه ورفع الآذان في مسجد الكلتاوية،ثم اختاره الشيخ أحمد المصري ليرفع الآذان في مسجد بني أمية الكبير في حلب لجمال صوته وروعة أدائه،في الأربعينيات عمل في الإذاعة لكنه تراجع إزاء رغبة والده وتفرغ للإنشاد الديني وأسس فرقة الإنشاد والتواشيح الدينية التي شهدت تطوراً باعتماده على الآلات الوترية “كمنجات– عود- تشيللو– ناي” ثم أدخل إليها فنّ الرقص الشعبي ولاقت صدى واسعاً.
أسطوانة مؤذن حلب
أعجب به الباحث الموسيقي كريستيان بوخه وسجل له أسطوانة بعنوان “مؤذن حلب” وزعت في أوربا، كان عام 1975 نقطة تحوّل في حياته المهنية حينما أحيا حفلاً كبيراً على مسرح لاموند في باريس ونشر التراث في الدول الأوروبية، ثم قام بجولات متعددة في الدول العربية والأوروبية،ولحّن الكثير من الموشحات،في منتصف التسعينيات أسس ابن أخته محمد حماديه فرقة غناء وإنشاد أطلق عليها اسم (التراث) وسعت نشاطها داخل سورية وخارجها،رُشح للمشاركة في مهرجان قرطاج وبعده جال عدداً من دول العالم منها اليابان وأمريكا اللاتينية،اشترك مع فرقة الكندي التي ألّفها عازف القانون الفرنسي جوليان فايس،ومن أعضائها محمد قدري دلال على العود،ومحمد قمار على آلة الجوزة،وزياد قاضي أمين على الناي،وعادل شمس الدين على الرق برئاسة الفنان صبري مدلل وبمشاركة عمر سرميني.كرّمه الرئيس بشار الأسد على عطاءاته النبيلة ونشره التراث كما كرّم في الكويت واستمر بالغناء إلى ما بعد الثمانين.
التنوع بالحركات الصوتية
بعد أن بلغ الستين بدأ بالغناء إلى جانب الغناء الديني واستمر برفع الآذان إلى وفاته،وهنا اعتمد المحاضر في القسم الثاني من محاضرته على الجانب السمعي والإصغائي لمقتطفات من حفلاته،حلل من خلالها الخصائص الفنية التي تميّزه فأوضح الباحث أن أداءَه “الحب ما هو بالساهل” فاق أداء صباح فخري وبدا ذلك واضحا بالارتجالات وغناء الآهات والليالي والتنوع بالحركات الصوتية التي يطلق عليها بلغة السمعية “السلطنة”،وتحتاج إلى قدرات صوتية كبيرة،كما نجح بالتنقل من دور إلى قصيدة إلى موشح والتنقل بين المقامات المتقاربة،واتسمت قدرات صوته بالنفَس الطويل والبحة التي تغلب عليها بالسلطنة كما في موشح “جلّ من قدّ صورك”
الموشح الراقص
وتوقف الباحث عند الموشح الراقص”يافاتن الغزلان”
يا فاتن الغزلان اسمح وكلمني/والليل عليّ طال والدمع سال سال/
الأمر اللافت أنه أول من غنى: “ابعتلي جواب وطمني/ولو إنه عتاب عتاب ما تحرمني” للشاعر حسام الدين الخطيب وألحان بكري الكردي،كما لحّن له كل من الفنان نديم الدرويش وسليم غزالة.
وتميّز بملازمة المنشدين والمرددين واعتمادهم على تقنية تعدد الأصوات والتفرد بالجمل اللحنية.حفظ بذاكرته أعمال العمالقة القصبجي وزكريا أحمد وعبد الوهاب وكانت ألحانه التي بلغت 42 لاتقل شأناً عن غنائه.
سهرة السبت
أراد مدلل أن يؤسس سهرة لأصدقائه المقربين في منزل صديقه يحيى زين العابدين لكن ذاع صيتها في أرجاء حلب،فصارت تضم كبار فناني حلب مثل صباح فخري وظافر جسري ونهاد نجار وكبار الموسيقيين والمثقفين إلى جانب الأصدقاء الأساسيين،وغدت مسرحاً غنائياً للغناء والنقاش.
دكان الصابون
وشاركت الباحثة الموسيقية نبيلة أبو الشامات الباحث باشا كضيفة بمداخلتها عن علاقتها بصبري مدلل حينما أصرت أثناء حضورها فعاليات مهرجان الأغنية العربية في حلب أن تقابله بعد حفلته في الملعب التي وصفتها بالكاملة،كما تحدثت عن الحضور الكبير وتفاعل الجمهور،فمضت باتجاه قلعة حلب تسأل عن منزله وقادها الطريق إلى حارة الجلوم ظهر الجمعة في زمن روحاني يتزامن مع التسابيح التي تسبق الآذان،وفوجئت بأن مدلل الذي حفظ تراث حلب كان معشقاً بعبق صابون الغار الذي يبيعه في دكانه،ثم تابعت حديثها عن صورة عمر البطش التي يضعها فوق سريره وعن تواضعه وجمال روحه ومقابلته لها رغم عدم معرفته بها ورغم ملازمته الفراش بعد إجرائه عملاً جراحياً.توفي مدلل في عام 2006 بعدما حفظ تراث حلب وعلّمه لتلاميذه حتى الرمق الأخير من حياته، فكان مدلل حافظاً لتراث حلب وعلينا أن نحمي تراث سورية بالتدوين والحفظ.
ملده شويكاني