ثقافة

في ندوة “الآثار وسؤال الهوية سورية أنموذجاً ” توحيد الجهود للمحافظة على الهوية

سؤال الهوية من الأسئلة المهمة التي تلح علينا باستمرار، وقد بات اليوم أكثر إلحاحاً وأشد خطورة لأننا نخوض حرباً المستهدف الأول فيها هو الهوية بكل ما تحمله من قيم حضارية وثقافية وتراثية. تلك الحرب التي تريد اجتثاث جذور هذا الشعب وقطع الصلة مع الماضي وعدم النظر للمستقبل، ولأن الآثار جزء من تلك الهوية فقد كانت موضوعاً للندوة التي أقامها اتحاد كتاب العرب بدمشق تحت عنوان “الآثار وسؤال الهوية سورية أنموذجاً” والتي عكست بصدق جهداً كبيراً من ناحية التنظيم والبحوث المشاركة والأهمية في هذه الظروف.
وفي كلمة الافتتاح عرض رئيس اتحاد الكتاب العرب د. حسين جمعة مجموعة من الآراء المختلفة حول تراثنا وآثارنا، مؤكداً أن البعض يركز على التراث المعنوي ويلغي التراث المادي بحكم ابتعاده عنه، في حين يرى آخرون أن كل ما ورثوه عن الأجداد هو بحكم الميت ولا حاجة للأجيال للتعامل معه، وهناك المتطرفون في العقيدة والدين الذين ينظرون للتماثيل على أنها أصنام تجب إزالتها. أما وجهة نظر العقلاء فتعتبر الآثار بنوعيها المادي والمعنوي جزءاً من تراث الأجداد والآباء الذي يدل على شخصية الأمة في مرحلة من المراحل، فضلاً عن أنها شكلاً حضارياً قامت به ذات يوم.
كما تحدث جمعة عما تتعرض له الآثار السورية من تدمير ممنهج وتخريب وسرقة وتزوير خلال السنوات الأربع من العدوان الغربي الأمريكي الصهيوني التركي، وينفذه من لم يفهموا الإسلام وحقائقه، وصمموا على تحطيم الذات الحضارية للأمة العربية. وأشار جمعة إلى التقاطع بين ما يفعله الصهاينة بأرض فلسطين ومحاولة تدمير وسرقة تاريخها، وما تحاول العصابات الإرهابية أن تفعله في سورية. وختم جمعة بالتأكيد على أن  الحفاظ على الهوية والشخصية الحضارية والقيم الروحية والخلقية لا يمكن أن يتحقق كاملاً بغير الحفاظ على الآثار المادية والمعنوية، ومقاربة ذلك بالوعي والمحبة لشخصيتنا التاريخية الحضارية وليس بالتخلف الفكري الديني والكراهية والجدال.

إرهاب عابر للأديان والثقافات
الجلسة الأولى من الندوة أدارها د. نزار بني المرجة وبدأ الحديث فيها د. إبراهيم زعرور بمحور “الوحدة التاريخية والحضارية لبلاد الشام والعراق” معتبراً أن الوحدة الحضارية والتاريخية لبلاد الشام “سورية الطبيعية والعراق لا تحتاج لبراهين وأدلة، لأن الجوانب الحضارية والتاريخية وآثارها وتراثها لا تترك مجالاً لأي نقاش عن هذه الوحدة،  فنحن أمام وطن الأبجدية والكتابة الأولى والقانون الأول، والقلاع والحصون التي تمتد على مساحة سورية والعراق ضمن مدن كاملة الكثير منها لا تزال مدفونة. ورأى زعرور أن محاولات تدمير الوحدة الحضارية والتاريخية والأثرية ليست حديثة، بل تعود ربما لقرون، مؤكداً أن ما يحدث في سورية والمنطقة من التطهير الحضاري  والتاريخي والعرقي، وسياسة الإقصاء والإبادة في مشهد اليوم أمرغير مسبوق في التاريخ، فهو محمل بالعدوان والإرهاب الشيطاني ضمن مخطط صهيو أمريكي – غربي – عثماني- رجعي عربي عبر الوهابية السعودية وحكام الخليج، وهو إرهاب عابر للأديان والأوطان والثقافة والحضارة، ويعد أكبر عملية تطهير بشري ثقافي حضاري لوجودنا ومصيرنا ومستقبلنا وخيار سورية هو المواجهة والانتصار.

تزوير التاريخ لتبرير الدولة
أما مشاركة د. إياد يونس فحملت عنوان “آثار بلاد الشام بين التزوير التوراتي ومحاولات التهويد” تحدث فيها عن الرواية الصهيونية العالمية والمدرسة التوراتية التي زورت التوراة لتبرير وبلورة أطماعها، كما زورت حقائق التاريخ العربي في محاولة تبرير وجودها. وركز يونس على ما طال التراث الأثري في بلاد الشام من سوء استخدام وتفسير من قبل الغربيين، ودور رجال الدين والسياسة والعسكر، ومن ذلك حملات التنقيب الأثرية التي طالت جميع البلدان التي ورد ذكرها في التوراة، وبخاصة سورية والأردن، وفي فلسطين في محاولة لاحتلال التاريخ بعد احتلال الأرض، حيث تسابقت الدول الغربية لإنشاء معاهد الآثار التي تعتمد على النهج التوراتي. وقدم يونس بعض الأمثلة عن الآثار السورية التي طالها التزوير من قبل تلك البعثات، ومنها تنقيبات ماري وأوغاريت، معتبراً أن الأخطر كانت محاولة الربط بين مكتشفات إيبلا والتوراة، إضافة لما يحدث من ممارسات إسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة كما حدث في الجولان السوري من عمليات بحث وتنقيب زعموا من خلالها أن الجولان جزء من مملكة داود وسليمان. كما قدم يونس بعض الحقائق التي تؤكد زيف الرواية اليهودية وتحدث عن مشروع أركان الصهيوني وأهدافه في وضع تسلسل زمني لمنطقة الشرق الأوسط، وحذف المواقع الكنعانية والفينيقية في الساحل السوري من ذلك التسلسل.

حضارة الجولان موغلة في القدم
وتحت عنوان “مدخل في تاريخ الجولان” تناول الباحث عز الدين سطاس في مداخلته الجولان السوري من حيث التسمية والموقع والتاريخ والمميزات الطبيعية والجغرافية. وشدد سطاس على أن استيطان الإنسان في الجولان يعود إلى عهود موغلة في القدم، وقد تم العثور على العديد من الأدلة التي تثبت ذلك، ومنها ما وجد في منطقة بحيرة مسعدة من أدوات الإنسان القديم المطمورة تحت الرواسب البركانية التي تعود بعض طبقاتها إلى ما قبل 800 ألف عام، ما يؤكد أن شمال الجولان كان مسكوناً قبل ربع مليون سنة تقريباً، ويعتبر عهد المماليك من العهود المزدهرة في الجولان، فلا يخلو موقع من المواقع من لقى تعود لذلك العصر. وختم سطاس مشاركته بالتأكيد على مجموعة من الحقائق  منها قدم وجود الإنسان في الجولان وكثافة المواقع الأثرية وتوزعها على مختلف أنحاء الجولان والتواصل القائم بين مختلف العصور التي شهدتها المنطقة والتأكيد على الهوية العربية للجولان.

سورية رقم صعب
أما الجلسة الثانية بإدارة الأديب محمد حذيفي فبدأت مداخلاتها مع الباحث فيكن بوغوص عباجيان الذي تحدث بالتفصيل عن مشروع التوثيق المعلوماتي وأهميته، وبالدخول في التفاصيل تحدث عباجيان عن حقول التوثيق المعلوماتي في المجالات المختلفة المتاحف والمباني والمواقع الأثرية، مع المعايير التي تستند إليها والهدف من التوثيق في كل حالة. وشدد على أهمية التوثيق الالكتروني في المتاحف لعدة أسباب منها التوافقية والتصنيف والربط المباشر للآثار السورية بالنافذة العالمية. كما تحدث عباجيان عن مراحل المشروع ، حيث تمثلت المرحلة الأولى في البرمجيات وتنفيذها، والمرحلة الثانية في الدراسات التي قدمت وضاعت ولم تنفذ. وتحدث عباجيان عن ثلاثة مشاريع غربية في غاية الخطورة يمكن إيجاز خطورتها من خلال توثيق مجموعة من الرُقم الضائعة بحالتها، واعتبار سورية في مشروع آخر ليست مهد الحضارات بل ممراً، واعتبار الأرض السورية بدون ميزات مشتركة جغرافياً وثقافياً، لكن عباجيان أكد حتمية انتصار سورية لأنها رقم صعب.

إقصاء مكونات أساسية للحضارة السورية
وجاءت مشاركة د. إبراهيم خليل خلايلي بعنوان “المكونات الحضارية لهوية الشعب السوري” إذ رأى أن التاريخ الوطني لسورية جزء من هويتها الوطنية التي تشكلت عبر العصور، وسورية شهدت تواصلاً تاريخياً بين مختلف العصور، معتبراً أن الخطر على الهوية السورية يتجسد في الحرب على مكوناتها التاريخية وأصولها وفروعها التي حققت الاستمرار كما لاحظنا في سلسلة المساعي لإقصاء الكنعانيين وأهم ما يشير إليهم، ثم في الحرب المفتوحة على التركة الآرامية خاصة في مجال التراث اللغوي الآرامي ومحاولات طمسه، وما نشهده من إجراءات عدوانية ترتكبها العصابات الإرهابية الصهيونية بدعم وتوجيه من منظمات يهودية ضد من يمثل امتداداً حضارياً للآراميين والسريان والآشوريين والكلدان والأرمن بهدف إبعادهم، لأنهم يمثلون أهم مكونات الهوية السورية القديمة. وتحدث خلاخيلي عن كتاب “الإرث السوري خلال الأزمة” وما تضمنه من أخطاء منها إقصاء 16 مدينة كنعانية فينيقية، والخطأ عند ذكر إيبلا وأفاميا  في تحديد الاتجاه الجغرافي لإيبلا وتعريف أفاميا على أنها مستعمرة يونانية، وكان لابد في كتاب يتحدث عن الإرث الأثري السوري من استشارة المختصين. كما شدد خلاخيلي على التحدي الجدي للباحثين والسلطات العلمية والثقافية المختصة التي يجب أن تطور أداءها ومنظومة معلوماتها بالشكل المناسب.

أيقونة الشرق
ختام المشاركات كان مع د. اسكندر لوقا الذي تحدث عن” لواء اسكندرون” ووصفه بمتحف سقفه السماء فكل شيء فيه هو معلم ثري حتى الأشجار المعمرة على تلك الأرض. وقدم لوقا عدة تعريفات للواء لباحثين ومؤرخين غربيين ليقدم تعريفه الخاص له على أنه أيقونة الشرق، ومحط أنظار أبناء سورية اليوم وكما كانت قبل النكبة. كما تحدث عن الامتداد الطبيعي والجغرافي والطبيعة الساحرة للواء، ليعود  بالذاكرة إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي عندما اقتحمت القوات التركية اللواء في ظروف دولية مواتية، وما رافقها من رضوخ فرنسا لشروط تركيا والإجراءات التي تمت وأدت لنكبة سورية بسلخ اللواء عن الوطن الأم، معتبراً أن المهم حالياً تحديد المسار أين ومتى وكيف سنستعيد لواءنا السليب؟.
جلال نديم صالح