ثقافة

“مسيرة وطن”: فيلم لرفع عتب سابق

تعاطي الفيلم مع الموضوع كان على عجالة بالغة وبالسرعة القصوى؛ الحديث عن فترة ممتدة منذ عام 1919 إلى الآن – قرابة المائة عام إلّا أربعة – من تاريخ هذا الجيش لا تكفيه ساعتان، يحتاج هذا التاريخ إلى سلسلة كاملة من عدّة أفلام وثائقيّة يؤرّخ كل فيلم منها لحقبة من تاريخه، مثلاً يكون الفيلم الأوّل عن الجيش في مرحلة التصدّي للاحتلال الفرنسي، والفيلم الثاني عن مرحلة ما بعد الاحتلال إلى حرب الإنقاذ، والثالث منذ الإنقاذ إلى الوحدة مع مصر، ورابع عن فترة ما بعد الوحدة إلى النكسة، وخامس عن الاستعداد لحرب  تشرين التحريرية ثم حرب الاستنزاف اللاحقة، وسادس عن مرحلة لبنان ودور الجيش في الحفاظ على وحدته وصدّ العدوان عنه ودعم مقاومته، وهكذا إلى أن نصل في أفلام كاملة عن العدوان الذي يُشنّ على البلاد منذ عام 2011.
إن تعاطي الفيلم بهذه العجالة مع قرن من الزمن في 120 دقيقة  يجعله لا يوفي أي مرحلة مرّ بها هذا الجيش حقّه، فالزمن السينمائي ضيّق مقارنةً بالزمن الواقعي، فكل عام من أعوام هذا الجيش يعبّر عنه الفيلم بحوالي دقيقة وثلث الدقيقة، هذا التعاطي يعني كارثة سينمائيّة إذا افترضنا أن الفترة منذ الاجتياح الصهيوني للبنان في 1982 إلى 1991 سوف يعبّر عنها بـ 11 دقيقة ونيّف، وهي فترة بذل فيها الجيش العربي السوري أكثر من 16 ألف شهيد رووا لبنان بدماء حفظت ثراه من التقسيم، ما يعني دقيقة لكل حوالي 1400 شهيد، وأيضاً إذا أراد التعبير عن الحرب الوطنية المجيدة التي يخوضها هذا الجيش للعام الخامس على التوالي منذ عام 2011، فيعني حوالي 6 دقائق ونصف، هذا إجحاف وإهمال، غير أنّ الفيلم يفرد زمناً سينمائياً أطول لمراحل وتفاصيل محددة، مثل مشهد تعامل وحدات الجيش مع أحد أوكار الإرهابيين، وهذا انتقاء من الواقع يراعي ما هو متوفّر من مواد فيلمية، بينما المفروض أن يُراعي خطّة وبناء الفيلم نفسه وتوزيعه الزمني.
الفيلم الذي تصفه المؤسسة العامة للسينما بأنّه أوّل “فيلم كامل” عن الجيش، لا تفسّر لماذا إلى الآن حتّى ظهر أوّل فيلم كامل؟ ، ولماذا لم يظهر في السنة الأولى من الحرب، عندما قام الإعلام الدولي المضاد بكل ما أوتي من دعاية كاذبة لنزع الشرعية عن هذا الجيش، ولم يستطع، وفي العام الثاني عندما بات استهداف هذا الجيش غرضاً وهدفاً مكشوفاً لا يخجل الأعداء من ذكره وتصريحه، وفي السنة الثالثة سنة التضحيات الكبرى والعزم العظيم والدم المداد، وفي السنة الرابعة سنة استعادة زمام المجد ومقابض المبادرة، بل الآن يظهر في منتصف السنة الخامسة.
يُقال بأنّه من مصدر واحد لا تخرج حقائق متضاربة ومتناقضة، الجهة المنتجة للفيلم هي نفسها، التي قامت بإنتاج فيلم “العاشق” وهو الفيلم الذي قام التلفزيون العربي السوري بمنع إعلانه على شاشته منذ مدّة وجيزة، قرار المنع ببساطة بسبب مشهد دعائي مضاد بامتياز يحاول تشويه شعار حزب البعث، يقع ذلك عندما يطلب مدير المدرسة من طالب مريض وصوته لا يخرج أن يردد الشعار في الباحة، ثم ينادي للطالب ويقوم بعملية قمع ضده لإجباره على ترديد الشعار بطريقة تُظهر الأستاذ وحشاً كاسراً والطالب حمامة مهيضة، في الوقت الذي يبذل فيه نفس الجيش شهداء يقضون طوعاً وبطولةً فقط لأنهم يرفضون ترديد شعارات الإرهابيين، ولن يكون آخرهم ذلك الذي خيّب آمالهم فقال النقيض تماماً وهو يواجه موته بشجاعة ملحمية (والله لنمحيها) ذلك القتل على الشعار تنساه الجهة المنتجة فتقصد وتعمد وتذهب إلى تشويه شعار قومي من نوع وحدوي  نشأنا على ترديده، مثلما تنسى أن الجيش العربي السوري يُقاتل ويبذل النفيس من النفوس المضحية بناءً على عقيدة قتالية، ولهذا نسميه جيشاً عقائديّاً، إنّها نفس العقيدة التي تقوم على أن: أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، شاء من شاء وقبل من قبل، يستطيع أي إنسان أن يرفض تلك الأيديولوجية، أن يقول عنها ما شاء، ولكنّ هذا الجيش ارتضاها لنفسه عقيدةً ومنهجاً ورؤية، فخاض كل ما يتعرض له من ظلم إعلامي وتهجم واعتداء، واعياً أن مشاريع استشهاده إنّما بسبب تلك العقيدة، والتي من تفاصيلها أن بوصلته فقط إلى  فلسطين، فهل نمتدح الجيش في مكان ثم نهاجم عقيدته ورؤيته القتالية في مكان آخر؟ وهل ثمّة فرق بين المقاتل وبين لماذا يقاتل؟.
إنّها نفس الجهة التي أنتجت فيلماً روائياً منذ مدّة يظهر فيه جندي من نفس الجيش الذي تمتدحه الآن، يظهر في مدخل شارع وبندقيّته مصوّبة إلى وجه طفل يهمّ بدخول الحي مع أسرته، ثم عدد من جنود نفس الجيش يقفون على مداخل الأزقّة استعداداً للاقتحام، لم يظهر في ذلك المشهد  من فيلم “الرابعة بتوقيت الفردوس”، أي مسلّح إرهابي، أو أي أثر للجماعات التكفيريّة، ما ظهر كان فقط جيش ومدنيّون، وأيضاً جندي على حاجز وبجانبه يجلس مواطنون كالأسرى.
إن عرض المؤسسة  لهذا الفيلم بهذا التوقيت، وذلك بعد تعرضها للانتقاد بسبب الفيلمين السابقين، وأيضاً قرار منع إعلان فيلم العاشق، يرجّح بقوّة فرضيّة – نأمل أنها خاطئة – أن يكون عرض فيلم “مسيرة وطن” المشغول على عجالة، نوعاً من تبرئة للساحة، أو ورقة ترمي بها تلك الجهة على طاولة درء الشبهة، وهي ورقة تقصد إلى القول: إننا نقف إلى جانب هذا الجيش ونذود عنه بالكاميرا وخلافها، فهل نمتدح الجيش بفيلم وثائقيّ ذي ميزانية متواضعة، ونتهجّم عليه بفيلم روائي ذي ميزانية باهظة من قرابة تسعين مليون ليرة؟ يجب التظاهر بالعدل، ولو من قبيل العدل بالمال.
يبقى لزاماً ذكر أنّ الفيلم ليس وثائقيّاً كما يوصف، بل ديكو – دراما، لأنّه يتضمّن مشاهد تمثيل، كما أنّه ثمة خطأ وارد في بطاقة أعماله، فيذكرون  أن السيناريو من كتابة فلان، في حين أن الفيلم الوثائقي – إذا افترضنا أنّه وثائقي – لا سيناريو له، ربّما يقصدون التعليق أو خطّة بناء الفيلم.
تمام علي بركات