ثقافة

قـطـارات الـمـدن المنـسـيـة

تبعد مدينة القامشلي عن دمشق ألف كيلو متر, ساعة طيران واحدة, ثماني ساعات في (البولمان)  وست عشرة ساعة في القطار. لكن القطار عند أهل القامشلي له نكهته الخاصة, وله تلك الحميمية, وتلك العلاقة التي تشبه علاقة حب, يعجز التعبير عنها, علاقة تكاد تشبه الأساطير وسحر الليل الذي لا يمكن وصفه ببضع كلمات. كنا نقرأ حركة القطارات ومواعيد انطلاقها في الصحف السورية, التي يوزعونها في القطارمجاناً.
القطار الذاهب من مدينة القامشلي إلى العاصمة دمشق, ينطلق من محطته الأولى مع غروب شمس كل يوم, وكأنما صفارة انطلاقه موقوتة مع الغروب, وهو في عودته في اليوم التالي من دمشق إلى القامشلي يعود أيضا مع الغروب. إنه الوسيلة الأكثر أمنا وأمانا من باقي وسائل السفر فتجد الإقبال عليه يكاد لا يصدق.
في قطار القامشلي سلسلة من العربات, المترابطة والتي يقودها كابتن واحد  ومعه مساعد, وتصل في ذات اللحظة جميع العربات, ولهذا القطار ميزة الحسم على تذاكر الجنود والصحفيين.
عربات الشحن فيه هي الأكثر خدمة لأهل الإبداع, كأن يوضع فيها ديكور لمسرحية من القامشلي ستعرض في دمشق, أو أن تكون حاملة لـ “كراتين كتب” للمشاركة في معرض كتاب, أو أن تشحن فيها ملابس فرقة فلكلورية موسيقية مع آلاتها. ثم تأتي عربات الدرجة (العادية) وهي عربات غير مكيفة, ركابها من بسطاء الناس وكبار السن, وعلى  الأغلب هم ممن يترجلون في محطات ذات القطار, قبل الوصول إلى دمشق بكثير, تلي ذلك عربة المقصف, وهي القاسم المشترك بين الجميع. ففيها يتساوى الفقراء والأغنياء, المثقف والإنسان العادي, في عربة المقصف بعض  أنواع السندويش والدخان والمشروبات, وهي الفرصة التي يمكن أن يتعرف فيها الناس على بعضهم أكثر,  ويلعبون “الورق”. وفي تلك العربة أيضا تنشأ بدايات مشاريع لقصص حب تبدأ من عربة المقصف, بعضها تكلل بالزواج مثلما حدث, وأقيمت (عراضة ) لعريسين من القامشلي.
وفيها أقمنا أمسيات أدبية قصصية وشعرية, وتم تقديم معزوفات موسيقية, وذات مرة قدم الفنان المسرحي، حسن عكلا، (مشاهد قصيرة) من مسرحيته حديقة الحيوان لادوار ألبي, في تلك العربة تعرفت على موسيقيين شبان, ورسامين جدد, ونشأت بيني وبين صبية سمراء حالة حب مباغتة قرأت لها قصة قصيرة جدا, وقرأت لي قصيدة, كلما تذكرت بعض كلماتها تنتابني نوبة من الضحك. أقسم أني كنت قد قررت حينها انه لو تم التواصل أكثر لتزوجتها, هي نزلت في محطة حمص وأنا تابعت قطاري إلى دمشق, من خلف نوافذ القطار لوحت لها بيدي وهي برفقة أمها لوحت لي بدموعها.
عربات الدرجة الأولى هي العربات الأكثر ميلا للهدوء نسبيا, هذا إذا لم يكن هناك طفل مصاب بإسهال حاد , ويظل لوقت طويل يبكي ويحرج أمه, أو أن يكون هناك طفل لديه (زعرنة بريئة) يريد أن يلهو مع بقية الركاب, ليمضي في تمضية بعض الوقت.عربات الدرجة الأولى مكيفة وفيها إضاءة رائعة  وموسيقى هادئة. وستائر أنيقة لنوافذ القطار.
في تلك العربات ثمة امرأة ترضع طفلها, رجل يقرأ رواية أو كتاب شعر, صبية تقرأ كتاب جامعي فنعرف أنها ذاهبة لتقديم امتحان ما، وسيدة تحيك الصوف, وشاب يحل الكلمات المتقاطعة.
بعد غرف الدرجة الأولى تأتي غرف النوم, كل غرفة فيها سريران وطاولة ومغسلة وخزانة صغيرة وفيها تكييف, تفعل بها ماتريد من سماع موسيقى وشرب أي نوع من المشروبات وتعد الطعام وتدخن وتقرأ وتكتب وتتصل مع من تحب (بالجوال) وكأنك في غرفة فندق راق.
الزوج والزوجة يبرزان دفتر العائلة لينعما بساعات حميمة في غرفة منامة في ذاك القطار الذي لا ينسى.
في ذاك القطار القادم من القامشلي إلى دمشق كتب الروائي العراقي مهدي علي الراضي روايته (حفلة إعدام الدعوة عامة)، قبل أن ينتحر في دمشق منذ ما يقارب السبعة أعوام.
في الثمانينات قدم الروائي عبد الرحمن منيف بالطائرة من دمشق إلى القامشلي لتقديم العزاء لأحد أصدقائه السريان وأحد رفاقه في حزب البعث, لكنه فضل العودة في القطار القادم من القامشلي  إلى دمشق. وفي هذا القطار كان قاد سافر الفنان الكبير  دريد لحام إلى القامشلي, وأسماه قطار الفرح,
مع بداية الأزمة السورية فجر الإرهابيون العديد من سكك القطار ودمروا بعض محطاته, ومن ثم توقفت حركة ذاك القطار, الذي أحن إلى لياليه وأيامه الرائعة , إذ لربما يعود قطارا للفرح.
أحمد عساف