ثقافة

“الكتابة” نعمةٌ ونَقمة

وسام محمد ونوس

الكتابةُ نعمةٌ ربّما, لكنّها ترقى إلى مستوى النّقمةِ أو تكاد! ليسَ أمراً اعتياديّاً,أو حدثاً ظرفيّاً أن تكتب.ليس فعلاً مؤقّتاً,أو إحساساً عابراً.هو ارتهانٌ كاملٌ للشّعورِ على مدار الوقت,وحتّى آخرِ نبض. أتحدّثُ هنا عن امتلاكِ القدرةِ على ترجمةِ الأحاسيس إلى كلمات، أو ما يُعرفُ بمَلكةِ الكتابة. الكتابةُ موهبةٌ أولاً, وخيالٌ خصبٌ ثانياً, ومشاعرَ شفافةٌ ثالثاً,وثقافةٌ واجتهادٌ وقدرةٌ على ملامسةِ الأحداثِ بروحٍ بالغةِ القربِ من الآخر,هائمةٍ حيث هناكَ قلبٌ حزينٌ وابتسامةٌ سعيدةٌ وشعورٌ إنسانيّ عذريّ. لحظةً بلحظة,يبقى الكاتبُ أسيرَ ما تشاهدُ العين,وما تسمعُ الأذن,و ما تردّد الشّفاه, وما يبخل بهِ الصّمت! نعم،الكتابةُ ارتهانٌ بكلّ ما للكلمةِ من قسوة،ارتهانٌ لروحهِ الهاطلةِ مع كلّ دمع،النّازفةِ مع كلّ جرح،الضّاحكةِ مع كلّ فرح،الصّارخةِ مع كلّ قهر،الصّامتةِ مع كلّ بوحٍ أخرس!.هي ذوبانُ النّفسِ في كؤوسِ الواقعِ المترعةِ بالفوضى.هي التقاطٌ دائمٌ لكلّ ما يعلقُ على أطرافِ العقلِ من ذرات الخيال.هي التنفّسُ بعمقٍ من رئةٍ مثقوبة،من واقعٍ أعيشهُ منذُ الصّغر, ربّما أستطيعُ أن أعبّرَ عن شعورِ الكاتبِ,وطبيعةِ حياتهِ المليئةِ بالتناقضاتِ,والهواجسِ,والألم.التناقضُ يكونُ بينَ أفكارهِ الإنسانيّةِ الأفلاطونية,وواقعهِ المُتخمِ بالظّلمِ والقهر.والهواجسُ هي انعكاسٌ حتميّ للقلقِ من مستقبلٍ لا أملَ واضحَ في ازدهاره.والألمُ صديقٌ دائمٌ, توءمُ كلّ خاطرةٍ,وابنٌ شرعيّ لكلّ فكرةٍ أنتجَها مشهدٌ قاسٍ أو خيالٌ كئيب. (النّفْسُ أمّارةٌ بالحزن) في عالمِ الكتابة،لأن من يكتبْ لا بدّ أن يحملَ أرقّ المشاعرِ الإنسانيّة, يحملُ نبضهُ في راحتيهِ عند المصافحة,وعلى أطرافِ شفاههِ عند الحديث,وفي نظراتهِ عند الشرود,فكيفَ لا ينجذبُ لكلّ حزنٍ ظاهرٍ أو مخفيّ يراهُ,أو يسمعُ أنينهُ, أو حتّى يتراءى كشبحٍ أمامَ عيونِ قلبه،وما أشدّ حزنَ الكُتّابِ في هذه الأيّامِ الحزينة! ودائماً ما يُتهمُ الكُتّابُ بالبعدِ عن الواقعِ,وهم الأقربُ إلى همومهِ. ربّما لأنّ المعروف لدى الناس أن الكاتبَ دائمُ العيشِ في خيالهِ باحثاً عن أفكارٍ جديدةٍ,متعلّقاً بحبالِ الأحلامِ السّعيدة.لكنّ الأمر ليس كذلك تماماً,فالسّفرُ في رحابِ الخيالِ لا يمكنُ أن يكتملَ إلا على جناحِ فكرةٍ واقعيةٍ مؤلمة,وبحثاً عن حلولٍ بكلماتٍ عاطفية,وصورٍ أقربُ إلى الروحِ لا إلى العقل,وهذا هو عين الأدب!.في فقهِ الكتابة أن تكتب يعني أن تموتَ مع الميت,أن تحيا من الحيّ,أن تلهو على هامشِ شقاوةِ الطفل,أن تكبرَ كنبضِ قلبِ فتاة,أن تبتسمُ من شفاهِ ضرير,أن تصنعَ الأملَ من نظرةِ عاجز.
أن تكتبَ,يعني أن تكوّنَ من شياطينِ يأسكِ ملاكَ أمل,يعني أن تثملَ في ذروةِ وعيك,يعني أن تؤمنَ بالقلبِ والقلبِ الآخر.أن تكتب, يعني أن تنشطرَ إلى عدّةِ أنصاف,أن تكتملَ أنتَ ونقصانُكَ كلّ على حدة,أن تتصارعَ مع أناكَ,فيصرعكما ذاكَ الأنا الأعلى أو تسقطانِ قربَ جثّةِ الأنا الأدنى,أن تتحوّل في لحظةٍ إلى كلّ الكائنات, وأن تمنحَ الأشياءَ أحاسيسَ إنسانيّة!.أن تكتبَ,يعني أن ينمو على أطرافِ أصابعكَ كونٌ,وتستقرَ على خصرِ زفراتكَ مجرّات،وتسبحَ في بحرِ لذّتكَ أفلاكٌ وأفلاك!أن ترتهنَ للفكرةِ بكلّ ما للارتهانِ من ذلّ,أن تتحرّرَ منكَ بكل ما للتحررِ من فضاءات, أن تعتنقَ عبوديّةٌ المحسوس,وترتدّ عن إلحادِ الملموس،وتركع خاشعاً لروحكَ, مؤدّياً فريضةَ السموّ!. الكاتبُ إنسانٌ,إنسانٌ لا أكثر,لا أحاولُ أن أمنحهُ قدراتٍ أكبر أو مشاعرَ خارقة,كما لا أقصدُ أن أقلّلَ من شفافيّةِ مشاعر الآخرين الّذين لا يكتبون. بل على العكسِ تماماً,أحاولُ القولَ أنّ هذا الكاتبَ امتلكَ القدرةَ على التّعبيرِ عمّا يعيشهُ معظم الناسِ,ويشعرونَ بهِ,ولا يستطيعونَ ترجمتهُ ربّما إلى كلماتٍ أو أفكارَ. هو منهم ولا يمكنُ أن يكونَ كاتباً إن تبرّأ من مجتمعهِ,وقضاياه الملحّةِ,وتطلعاتِ أبناء وطنهِ المحقّة. ليسَ أمراً شائناً أن نكتبَ عن الحبّ في زمنِ الحرب,وليسَ خروجاً عن النّص,ولا هرطقةً شعورية. الحبّ مطلبٌ أساسيّ في كل زمن,فكيفَ بزمنِ الحروبِ والكرهِ والأحزان. لا يمكنُ بأيّ حالٍ من الأحوال,أن نُلزمَ الكاتبَ باتجاهٍ واحدٍ تبعاً للظروفِ والأوضاع،فالحالة الفكريةُ تفرضُ نفسها,كما هي حالُ الحالةِ الشّعورية,وكم جميلٌ لو استطاعتُ حالةُ الكاتبِ الشعوريةِ أن تؤثّرَ في الآخرِ إيجاباً وتنقلهُ,ولو لوقتٍ قصيرٍ,إلى رحابِ خيالٍ وأملٍ مفتَقَدٍ ومُنتَظَر! بتنا لفرطِ انخراطنا في اليومياتِ الحزينة,نعتبُ على من يريدُ إخراجَنا من حالاتِ القهر ولو بكلماتٍ وخواطرَ سعيدة. بتنا نستكثرُ على هذا الكاتبِ أو ذاكَ,أن يخرجَ من الواقعِ, محاولاً استدراجنا إلى عالمهِ,ناثراً ياسميناً على أرصفةِ الدّم!.
الكتابةُ نعمةٌ لا شك,ونقمةٌ لا بدّ,لكنّها تتفاعلُ مع كلّ خيباتك,وتُهادنُ أنماطَ حزنكَ,وتتحوّل بقدرةِ كلماتكَ إلى أعراسٍ ذاتيّةٍ مؤبّدة!.