ثقافة

المطابقة .. حنا مينه أنموذجاً

يُعدُّ الكاتب والروائي حنّا مينه علماً روائيّاً مهمّاً من أعلام الرواية العربية، فهو من بين الروائيين العرب القلائل الذين ينتظم صدور أعمالهم الروائية، فبالإضافة إلى معالجته مختلفَ القضايا والمشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة، فهو من بين الكتاب الذين عالجوا قضايا مهمّة كمسألة العلاقة مع الآخر ووعي الذات وذلك في أعمال روائية معروفة، طغى عليها الاتجاه الواقعي نهجاً فنياً عبّر الكاتب من خلاله عن فلسفته وآرائه في مختلف أسئلة الوجود والحياة.
ولعلّ القلق الذي يتسرّب من وجدان الكاتب وعقله إلى شخصيات أبطاله في أعماله الروائية قد يدفع هؤلاء الأبطال أحياناً إلى التمرد على مبدعهم. فتتخذ حالة الصراع بين الذات والعالم (بُعداً مزدوجاً) يشي بالدوافع الخفيّة والمحرّكة لهذه الذات بوصفها كائناً متحركاً داخل تكوين اجتماعي تاريخي يخضع لتأثير لحظات مضطربة فينشأ الخلاف والجدل وغيرها من المفاهيم التي تتداولها اتجاهات النقد ومناهجه الحديثة.
بدأ حنا مينه إنتاجه الروائي في خمسينيات القرن المنصرم حيث صدرت له في تلك الفترة رواية “المصابيح الزرق” ليتبعها بروايتين اثنتين هما “الشراع والعاصفة” و”الثلج يأتي من النافذة” وهكذا..توالى صدور رواياته حتى أواخر ذلك القرن حيث شكّلت الثمانينيات والتسعينيات مسرحاً لأحداث روايات عدة، ولعل القارئ والمتابع لروايات حنا مينه يجد اهتماماً واضحاً بالشخصية والتي تكاد تستقل بالنص كما هي حال فارس في “المصابيح الزرق” والطروسي في “الشراع والعاصفة”، فقد طابق بعض النقاد بين شخصية حنا مينه وشخصيات أبطال رواياته فهو الفتى في “بقايا صور” وفياض في “الثلج يأتي من النافذة” لتأتي النتيجة البديهية لهذه المطابقة تحليلاً لنصوصه الروائية وذلك انطلاقاً من المعارف التي يملكها الناقد عن سيرة حياة كاتب تلك النصوص. ولا تكمن المشكلة النقدية في توظيف حنا مينه بعضاً من سيرة حياته في رواياته بل تكمن في الانتقال من تلك المطابقة إلى محاكمة هؤلاء الأبطال استناداً إلى أنهم يمثلون خالقهم الروائي ويتطابقون معه. ولا مراءَ في أنّ الكاتب قد أسهم في تعزيز تلك المطابقة لدى بعض النقاد حيث صرح مرة بقوله (إنّه لاحظ وهو يتقدم في العمر أنّ وقائع طفولته البعيدة تنطفئ شيئاً فشيئاً، ولهذا السبب عمل على جمع الوقائع والصور في عمل أدبي روائي هو (بقايا صور).
شكّلت المطابقة بين سيرة حنا مينه وأبطال رواياته مدخلاً إلى مطابقة أشد خطراً ألا وهي المطابقة بين إيديولوجية حنا مينه وأيديولوجية أبطاله، فالناظر إلى رواياته بعين المحب الصديق عدها أنموذجاً راقياً للواقعية الاشتراكية، أمّا الناظر بعين الراغب في الموضوعية وجدها قريبة من الواقعية الاشتراكية، فكانت طريقته في التصدي للمسائل الملحّة للواقع المعاش قد افتقدت المنهج الجدلي، حيث كانت أيديولوجيته مشوبة بأفكار مثالية ودينية مستمدة من موروثه الطفولي لتتنافى الأهمية الكبرى التي أعطاها الكاتب للبطل الشعبي في الحياة الاجتماعية مع الماركسية التي يعتنقها، إضافة إلى عنصر التضخيم الذي غلب على تصوير البطل النموذجي، فأصبح وجود هذا البطل غير واقعي.
لاشكّ أن المطابقة بين سيرة حنا مينه وسيرة أبطال رواياته خلصت إلى مطابقة أيديولوجية الكاتب a أبطاله، والحق أن النص الروائي لا ينهض ولا تستقيم أموره إلا إذا فرضت عليه الأيديولوجيا لأنّه نص فني يضم عدداً من الأيديولوجيات المتناقضة والمتصارعة، وهذا التناقض هو الذي ينهض بالصراع ويقنع المتلقي بذلك النص ويجعله شائعاً.
وصفوةُ القول: إن المطابقة المباشرة وغير المباشرة قد أساءت إلى روايات “حنا مينه” لأنّها حجبت عنها التحليل الذي يبرز بناءها الفني وتطوره، فلم يكن أتباع تلك المطابقة قادرين على ملاحظة الأساليب الفنية التي لجأ إليها حنا مينه كالتعويض عن الزمن الروائي الضيق في رواية “الولاعة” وهو أربعة أيام روائية لاغير، وجعلهم يغفلون عن التناص بين “المصابيح الزرق” و”زقاق المدقّ” لنجيب محفوظ، وفاتتهم رغبة حنا مينه في ترسيخ قيم جديدة للعلاقة بين الرجل والمرأة، وبرأينا أنّ بديل تلك المطابقة هو تحليل بناء روايات الكاتب بعيداً عن القراءة المضادة الراغبة في المدح أو الذم.
نـوار شــداد