ثقافة

نرسيس وغولدموند: العقل والروح

بين مجموع الأعمال الروائية العديدة التي قام الروائي الألماني “هرمان هسه” 1877-1962 بتأليفها، تقف “نرسيس وغولدموند” كواحدة من أهم وألمع الروايات العالمية إلى جانب العديد من المؤلفات الروائية الهامة، التي أغنت مكتبات الأدب العالمي في القرن الماضي، ولم يزل تأثيرها طاغ حتى الساعة بين قراء الرواية عموما في العالم.
إنها الثيمة المفضلة عند الجميع، صراع العقل الروح، بتجلياته التي لم يستطع وضع سقف أو نهاية لها حتى اليوم، وهذه ربما واحدة من أهم مميزات الفن، أنه بلا نهايات والخوض باق فيه ومتغير بقاء الإنسان وتغير عوالمه وسبل تفكيره، ولكن لماذا استطاعت “نرسيس وغولدموند” بهذه الثيمة البسيطة القائمة على أحد أشكال هذا الصراع، أن تحوز ليس إعجاب ومحبة القراء فقط، بل وشغلت بال النقاد العالميين لعقود خلت، حتى أنها أشبعت دراسة وتحليلا ونقدا بنيويا وشكلانيا وفلسفيا، رغم لمعان نجم العديد من المذاهب الفلسفية التي سيطرت على الفكر الأوروبي بعمومه في ذلك الوقت -الوجودية مثلا- ويبدو أنها ما زالت توقد في خاطر كل من يقرأها جذوة القلق المقدس، القلق الذي يتأرجح بين صراع شكلين قديمين قدم التاريخ، وفي كل فترة زمنية سيتخذ هذا الصراع شكلا مختلفا، لكن المضمون سيبقى واحدا، إنه صراع المادة والروح الأزلي.
“نرسيس وغولدموند” تطرق صميم الفكرة الدينية التي تقف خلف هذا الصراع، -ليس الدين المؤسساتي أو المؤدلج، إنّما الدين في صورته البدائية-، وحاجة الإنسان الملحة لتجاوز الجسد إلى فكرة وجودية تقض مضجعه وتقلقه، والإنسان قد يجد سكينة هذا القلق في العلوم اللاهوتية والفلسفة الدينية ودور العبادة، وهو ما كان عليه الراهب العبقريّ نرسيس، لكنّه قد يرفض كل ذلك باحثًا عن سكينته في اللاسكينة، كما كان الأمر عند غولدموند، اللذين التقيا صدفةً في “دير ماريابرون”، اللقاء الذي سيغير حياة الأخير إلى الأبد، كما أنه سيلقي حجرا ثقيلا في بركة الأول فيضطرب عالمه الداخلي ولكن بكثير من الهدوء والروية.
يمكن القول أن المقاطع التالية توضح بشكل عام طبيعة الصراع المتجلي في الرواية الآنفة الذكر، فها هو “غولدموند” يرسل حجته كغيمة تمطر فوق رأس صاحبه فيقول: “هل خلق الله الإنسان لكي يدرس مؤلّفات أرسطو وتوما الأكويني ويعرف اللغة اليونانيّة، وأن يخمد أحاسيسه ويتجنّب العالم؟ ألم يخلق الله الإنسان مع شهواته وكبريائه، وقلب من الدّم والظلام، ومع الحرّية في أن يأثم ويحبّ وييأس؟”
إلا أن كلاما كهذا لن يمر مرور الكرام على “نرسيس” الكاهن الشاب الواسع الثقافة والعالي الهمة العميق الحكمة، ابن العقل، الذي خلب لب الفتى مذ التقاه في الدير، الذي كان والد غولدموند جلبه إليه ليدرس فيه، على عادة النبلاء في ذلك الزمان، فيرد على الفتى ويقول “أنا أفهمك جيدا. الآن لم نعد بحاجة إلى الجدال: لقد وعيتَ وبتّ ترى الفرق القائم بيننا، الفرق بين رجال يشبهون والدهم وأولئك الّذين تحدّد مصيرهم امرأة، إنّه الفرق بين الرّوح والعقل، وأيضا الآن سرعان ما ستدرك أنّ حياتك في الدّير، وتوقك لأن تغدو راهبا ليس غير خطأ، أداة في يد والدك استخدمها ليزيل عنك ذكرى والدتك، أو ربّما فقط وسيلة للانتقام منها، أم أنّك ما زلت تتوهّم أنّ قدرك هو أن تبقى هنا لتمضي حياتك كلّها؟”.
يغادر الفتى الأشقر الدير بعد تجربة كادت تودي بحياته، عندما اختبر للمرة الأولى روعة الخطيئة وجمالها الفاتن، وهكذا تبدأ رحلة الجسد الذي يمثله “غولدموند” في الذهاب إلى أقصى حدود التطرف وهو يختبر في عموم هذه الرحلة الشاقة كل أنواع المتع الحسية التي يتوق إليها الجسد برغباته وشهواته، ليست القائمة على الجنس والطعام فقط، بل تلك الشهوة الشغوفة بالفن والجمال والرهافة والقوة، بالطبيعة والناس، بالمرئي والملموس والمحسوس، مشبعا غرائزه حتى الثمالة من كل ما يحرك فيه الحياة، مكتسبا يوماً إثر يوم حكمة الحياة التي مرت عبره وأرخت ثقلها فيه، ولن تنتهي هذه الرحلة قبل أن تقول مقالتها بل وتدافع عنها بكل ثقة بل وبإقناع كبير.
في العودة إلى السؤال عن السبب الذي جعل “نرسيس وغولدموند” واحدة من أكثر الروايات العالمية شهرة وتأثيرا بين مختلف أجيال القراء، يكمن الجواب في القدرة البارعة التي قدم بها “هسه” لشخصياته، بالتسلسل المدروس والذكي لطرحه وجهة نظره في سير الأحداث، التي تركها صاحب “الكريات الزجاجية” لتبدو وكأنها تجري دون تدخل منه كخالق لعوالمها، واضعا لحوارات رشيقة وعميقة في ما تذهب إليه، مبتعدا كل البعد عن التكلف الذي أبهر أدباء تلك المرحلة عموما وحكم منطقه نتاجهم، مبقيا على روح المعنى فقط ومتخلصا من كل المشاكل التي علقت في هذا النوع من الأدب الروائي، الذي يحمل فكرة أزلية –دينية أخلاقية- في رحمه.
وربما كانت هذه العناية الخاصة من المؤلف بشخصيتي نرسيس وغولدموند، إن كان في تفاصيل كل منهما الدقيقة، أم في تطورهما خلال السرد القصصي وما يعتري كل منهما من مشاعر تشعر القارئ أنها تخصه هو لا هما – وهذا واحد من أهم أسباب شهرة الرواية وسطوتها-  مردها إلى السؤال الذي طرح في آخر الرواية”عن أي الشخصيتين هو “هرمان هسه” في الرواية؟ هل هو غولدموند الروح البرية العصية على أي قيد، ابن الحياة؟ أم هو ذاك الكاهن نرسيس، ابن العقل والعلم والحكمة؟
السؤال الذي سينسحب علينا جميعا في مرحلة ما، وعندها لن يكفي التجاهل أو وضع اليدين على الأذنين، لرده، فهو سيبقى عالقا كنواس في دواخلنا، يطرقها في كل وقت، وما من مجال أو مكان للهرب، لكن يمكن أن نضع مقولة غولدموند الأخيرة، كدليل عام لجواب ما، في حال بدأنا التفكير عندما يهمس لـ نرسيس قائلا: “ولكن كيف يمكن أن تموت أنت يانرسيس؟ أنت تعرف لك أماً. كيف يمكننا أن نحب دون أم؟ إننا بدون أم لا نستطيع أن نموت”.

تمّام علي بركات