ثقافة

“القافا”.. الارستقراطي الشركسي حين يرقص عاشقاً

عندما كان زوربا اليوناني يعجز عن إيصال ما يريد من خلال الكلام لمحدثه، كان يرقص له بشغف لا يوصف، حتى أنه كاد يطير عن الأرض أكثر من مرة، ثم يبدأ بالقفز والدوران والركض، حتى تصبح رقصته بمثابة لغة يفهمها الطرف الأخر، ولكن هل كان “نيكوس كازانتزاكيس” عارفا بطبيعة ما يقدمه من خلال شخصيته الشهيرة التي تحمل الرواية اسمه “زوربا” وهل حقا يستطيع الرقص أن يكون لغة عالمية قادرة على التفاعل مع الأخر، وهل الرقص من مكونات الهوية الثقافية لشعب ما؟.

تاريخيا تعتبر الفنون هي كتاب التاريخ الحقيقي للشعوب. فإذا أردنا معرفة التاريخ الحقيقي لشعب ما،علينا التعمق في فنونه. ويمكن القول إن الفن الأدق في روايته للتاريخ هو الرقص، فقد لا يقوم جميع أفراد الشعب بالرسم أو النحت أو التمثيل أو الغناء على الملأ، لكنهم جميعا يرقصون في لحظة ما من حياتهم، فقديما كانت رقصات الشعوب، نوعا من طقوس العبادة أو رمزا من رموز الفرح والسعادة، أو حتى طريقة شكر ووسيلة امتنان عن خير ما، تهبه الطبيعة الى شعب ما. لذلك لا يمكن أبدا السهو عن الرقص الشعبي في كونه واحدا من مقومات الهوية الثقافية لشعب أو جماعة ما، فلكل شعب تراثه الفني المختلف، والرقص الفولكلوري أساس ذلك التراث، أما حديثا فلقد أكدت الدراسات الحديثة أن هناك أربعة أشياء تؤخر أو تقي من الإصابة بخرف الشيخوخة. وهذه الأشياء هي: القراءة، وممارسة الألعاب اللوحية، والعزف على آلة موسيقية والرقص. والأكثر تأثيراً في منع خرف الشيخوخة من بين هذه الأمور هو الرقص. فالرقص هو أسمى الروابط بين العقل والجسد، وربما الروح، إلى جانب اللغة أو اللهجة، وعلى كل شعب أن يتميز برقصة خاصة به، يستطيع من خلالها أن يروي تاريخه وما جرى فيه من أحداث جسام وانتصارات وغيرها، وهذه لا ريب عرفها الإنسان وحفظ قيمتها فصارت من فنونه ومن إرثه ولوحته الثقافية العامة.

طبعا الأمثلة كثيرة عن كيفية تعبير الرقص عن الحالة العامة لشعب ما، أو لجماعة ما، لأنه بما يقدمه من حركات وإيماءات، إنما هم يعبر عن طبيعة الحياة الاجتماعية لهذه الأمة أو الجماعة، كرقصة الهنود الحمر، ورقصة التانغو، والسامبا وغيرها، ولكن ولتقريب وجهة النظر بشكل أكثر توضيحا عن طبيعة العلاقة القائمة بين هذا الفن والشعب المعبر عنه، سنذهب للإضاءة على الرقص “الشركسي” هذا الرقص المثير للأعجاب والمنضبط بقصة حاكها ببراعة تاريخهم وما وقع فيه، رقص متقن وكأنه مشغول بالقطبة والسنارة، والحقيقة أن الشركسي يسرد بالرقص جميع جوانب حياة أهل القوقاز. فنرى فيه الجانب الديني المتمثّل في عبادة الآلهة القديمة، والجانب الحربي المتمثّل بالاعتزاز بالفروسية والأسلحة، والجانب البيئي من خلال اقتباس رقصات من البحر ومن حيوانات البيئة المحيطة كالجواد والنسر. كما تعبر الرقصات عن العلاقة بين المرأة والرجل من خلال التفاعل المتوازن بين العنصرين في المجتمع،وتنوع هذه القيم والعادات جعلا “للشركس” الكثير من الرقصات البديعة ومنها” القافا والزغالات والزفاكُؤ والإسلامية والتلبتشأس والودج والقاشوا وغيرها”.

ورقصة القافا تمثل بداية التفاعل المتسلسل بين المرأة والرجل. وهي من الرقصات الأرستقراطية.

وتعبر كل من الرقصات المختلطة الشركسية عن إحدى مراحل العلاقة بين الفتاة والشاب حيث تتدرج العلاقة بين النظرة الأولى الخجولة، إلى توطّد العلاقة تماماً بينهما ليُصبحا واحداً وكأنّهما عُنصرا أوكسجين وهيدروجين اتحدا ليُنتجا ماء.

يبدأ الرقص الشركسي عادةً بالقافا, بحيث يكون “أول الرقص حَنْجَلِة” كما يقال في المحكية الشامية، فهي رقصة جماعية هادئة، تُؤَدى بوتيرة معتدلة، وهي مبنية على خطوات وكأنّها بداية مسيرة طويلة، وتسمى عادة “برقصة اللقاء الأول”. حيث يشاهِد فيها الشاب الفتاةَ لأول مرة، ويبدي إعجابه بها، ويبدآن بالدوران حول بعضهما كالعصافير بحيث يكون كل منهما على يسار الآخر كي يتعرف عليه بقلبه. ويبدأ الحوار الراقص بين كل فتاة وكل شاب مشارك في الرقصة على أنغام الموسيقى، فيحدثها الشاب بجسده عن نفسه وعن مكانته الاجتماعية بين قومه، بحيث يعبر موقعه على حلبة الرقص (الجاغو) عن مكانته ووضعه الاجتماعي، وأيضا يعبر موقع الفتاة عن مكانتها وحظوتها بين أهلها،وهي رقصة طبقية على أية حال، وهكذا يتحدث الطرفان عن نفسيهما، بحيث يركز كلّ منهما أنظاره على الآخر وكأنّهما وحدهما على حلبة الرقص. ومن الملاحظات المثيرة هي أن الشاب لا يحيد بعينيه عن الفتاة وكأنه يحميها، بينما هي لا تنظر إلى عينيه مباشرة، بل تختلس النظرات إليه بطرف عينيها الحور لتقتله.

وفي المرحلة الثانية من الرقصة يدعو الشاب الفتاةَ إلى أن تُلقي نظرة بنفسها على مكانته والموقع الذي يحتله في مجتمعه لتتأكد من صدقه فيسحبها إلى مكانه في حلبة الرقص، ونرى هنا الأشكال الهندسية الدقيقة التي يرسمها الراقصون على لوحة “الجاغو” أو حلبة الرقص. وبعدها يأتي دور الفتاة لتسحبه إلى مكانها وتريه عالمها، بعدها تبدأ المرحلة الأهم من الرقصة حيث يتبادل الشُبان والفتيات أماكنهم. وهذا دليل على قبول كل شاب وكلّ فتاة بالآخر وبأن يكون جزءاً من عالمه، كما أنّ ذلك تعبير عن أنّ كلّ منهما سيصون مكانة الآخر ولن يفرط فيها.

ونرى في هذه الرقصة مدى الدقّة الهندسية والتماسك بين الراقصين. وهذا يُعبّر عن تماسك المُجتمع وقوّته ومساره الدقيق الّذي سيُحافظ به على تقاليده وعاداته

الرقص كان اللغة الأولى التي تبادلها الناس فيما بينهم مترافقة مع الاشارة، وكان كما أسلفنا له أسبابه وأنواعه المختلفة في كل أنحاء العالم، -من اكبر المجتمعات وارقاها حتى أصغر التجمعات القبلية التي يتم العثور عليها بين الحين والأخر في مجاهل افريقية أو أمريكا اللاتينية-، ماضيا وحاضرا ولاحقا، حتى أن شعوبا تم إفناؤها ولم يبق إلا رقصها ليدل عليها كالهنود الحمر، أو شعوب كان رقصها هو وسيلتها في التعبير عن رفضها للظلم الواقع عليها كما هي حال رقصة الزنوج، إن كان في أمريكا أو جنوب أفريقيا، لذا فهو فن يستحق الدراسة والتأمل في تفاصيله، لأنها تسهم بنسبة كبيرة في تكوين صورة شبه واضحة عن الحياة الاجتماعية بعموم أحوالها التي كان يحياها سلفنا، وهذا يعني أننا نحمل هذه الجينات، وهي لا ريب ميالة للتعبير بكل حريتها ولو بالرقص المجنون أحيانا.

تمّام علي بركات