ثقافة

“دوستويفسكي” شيخ كار المدارس النفسية

مما يحسب للروائي الروسي الأشهر “فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي”1821-1881- عدا عن كونه قدم للعالم، أدبا رفيعا ممتعا وعلميا أيضا، زاد من سعة الكون فعلا لا قولا، مما يحسب له أنه سبق عالم التحليل النفسي الأول “سيغمون فرويد” 1856-1939-إلى اكتشاف أقسام النفس البشرية حسب التقسيم الأشهر للنفس البشرية الذي ظهر بعد العديد من أعماله الروائية ومقالاته الفكرية “أنا – أنا أعلى – الهو” -كما قسمها فرويد- وذلك في روايته الأكمل “الأخوة كارمازوف” من خلال توصيفه أحداث تلك الرواية وما تمرّ به شخوصها من، تحولات نفسية عميقة تخضع لها، حسب علاقتها بالحياة وبالظروف الاجتماعية التي تحيا فيها، ومن الخيارات التي تتخذها خلال الزمن الحكائي، وتدل ببنية واضحة على ما يجعل كل شخصية، لها دلالتها الواضحة وميزتها التي لا تحتمل الشك، فهي تقدم عوالمها كما هي بشكل فعلي يكاد الواقعي فيه يطغى على الخيالي، وحتى عندما يلعب صاحب “الأخوة” ألعابه السردية الحاذقة في “تكنيكه” الروائي الخاص به وحده، وفي جعله شخصياته تتأرجح على حبال آيلة للسقوط في أي لحظة، يبقى حضور اللاوعي عنده أكيدا ومعقولا وممسوكا روائيا وعلميا ببراعة نادرة الوجود، وهذا ما نراه في مصائر بل في السير اليومية لشخصيات الأخوة الثلاثة”ميتيا-أيفان-إليوشا”في الرواية، بعد أن قدموا أنفسهم للقارئ على الشكل التالي “ميتيا: الهو- إيفان: الأنا- إليوشا: الأنا الأعلى”، وفي الحقيقة هذا التقسيم الروائي الذي كان ترميزا للنفس البشرية ذاتها لا لاختلافها من شخص لآخر، كان من الهواجس التي عايشت صاحب “المراهق” في سني حياته والأحداث الكثيرة والمتنوعة والغرائبية التي مرّ بها رجل، ولعلها واحدة من تأملاته الفلسفية-رغم ادعائه العكس- المتأخرة في سجنه “السيبيري” الذي عاش فيه تلك اللحظات اليقينية لرجل ينتظر تنفيذ حكم الإعدام به، بعد دقائق قليلة من تلك اللحظات الفاصلة بين كل ما هو حاضر وواقعي، وبين ماهو غائب في الشكل ربما، لكن المضمون أو الأثر النفسي القائم لهذه الحالة، مدرك ومحسوس ومقبوض على زمنه للروائي الأكثر قراءة حتى اليوم بين الروائيين العالميين وكأنه مرّ به!، وكان خلال المدة التي قضاها في السجن بسبب الأدب، يعير اهتمامه كاملا للقراءة، ويُحكى أنه طلب إلى أخيه برسالة، أن يرسل إليه مجموعة من الكتب، من بينها الكتب المقدسة جميعها، ولم يكن هذا الطلب بالطلب الغريب على روائي فذ كصاحب”مذلون مهانون” لقد درس الرجل النفس البشرية أيضا من النصوص المقدسة وعلاقة الإنسان بها، كيف أثرت بهم هذا التأثير المتيم بها، وكيف حكمت حياتهم طوال تلك القرون دون أن تنطفئ أو تخفت جذوتها، أراد أن يعرف أسرار خلود تلك الكتب واستمرار وجودها بهذا اللمعان بين الناس في زمنه كما في زمن سابق وكما في زمن مقبل كما تنبأ بذلك أيضا هذا الروائي البارع في واحد من حواراته، خصوصا وأن رواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا وأوروبا عموما في القرن التاسع عشر، وتتعامل مع مجموعة غزيرة من المواضيع أو الثيم المتنوعة، التي عبّر من خلالها عن أفكاره الفلسفية والدينية والنفسية من خلال كتاباتِه، حيث تحكي قصصه مواضيع عن الانتحار والفقر والخداع والأخلاق، أما مواضيعه النفسيّة فقد حكى فيها عن الأحلام حيث ظهرت في قصّة”الليالي البيضاء” وعلاقة الأب وابنه الفلسفية والدينية ومظهرها الاجتماعي، وغيرها من الأعمال التي ألهمت ولزمن طويل روائيو وعلماء النفس في أوروبا.

بعدها بمدة جاء “فرويد” وأعطى ذاك التقسيم النفسي، التشخيص الكلاسيكي المعروف للنفس البشرية، والحال يدل أنه لا بد أن “فرويد” كان مطلعا وبشدة على الأدب الذي أنتجه جاره صاحب “الجريمة والعقاب” التي تبين أيضا وفي تقاطعات مع مدرسة فلسفية أخرى –الوجودية- حيث يؤكد العديد من النقاد أن ديستويفسكي رائد هذا التيار -حيث تُعتبر روايته القصيرة”الإنسان الصرصار” واحدة من الروايات الفلسفية التي تشتغل على الألعاب النفسية الحياتية بمقدرة وإدراك هائلان للعالم وللمحيط وللعمق-،يكتب أعماله وهو على معرفة عميقة بطبيعة النفس البشرية، وحقيقة صراعها مع ذاتها أولا، قبل أن ينتقل هذا الصراع ليجري بمرارة ولكن في اللاوعي، حيث الصراع على أشده وهو صراع ضروس لا هوادة فيه، بينما الحياة تمشي وكأنها مغطاة بقشرة واهية لطبائع الناس وسلوكهم المختلف.

أيضا النفس البشرية لها تقسيمها الفريد في “الجريمة والعقاب” فالرواية الحاذقة التي تتحدث عن مقال منسوب “لراسكولينكوف” –بطل الجريمة والعقاب-صاغ فيه فكرته عن تقسيم البشر إلى نوعين “عاديين وغير عاديين”، هؤلاء غير العاديين هم المتفوقون الذين يحق لهم تجاوز القانون وارتكاب ما يرونه هم أسمى وأفضل، فنجده يقول: «أما الفئة الثانية فهي تتألف من رجال يتميزون بأنهم جميعا يكسرون القانون، بأنهم جميعا مدمرون، أو بأنهم جميعا ميالون إلى أن يصبحوا كذلك بحكم ملكاتهم. جرائم هؤلاء الرجال تتفاوت خطورتها وتتنوع أشكالها طبعا وأكثرهم يريدون، بأساليب متنوعة جدا، تدمير الحاضر في سبيل شيء أفضل، فإذا وجب على أحدهم من أجل تحقيق فكرته، أن يخطو فوق جثة، أو فوق بركة دم، فأن يستطيع أن يعزم أمره على أن يخطو فوق جثة وفوق بركة الدم وضميره مرتاح؛ كل شيء رهن بمضمون فكرته، وبما لها من أهمية طبعا” ومن المقطع السابق الذي ورد في الرواية الأنفة الذكر، نستطيع أن نتلمس الأثر الواضح لصاحب “المقامر” أيضا في مذهب الفيلسوف الألماني”فريدريش فيلهيلم نيتشه”-1844-1900- الفلسفي ونظرية الرجل الخارق التي حملتها مؤلفاته وروجت لها وكان من أشد التأثر بها ومقاربتها للحياة “الحرب العالمية الثانية”، والفوارق هي في التنويع على الصياغة أما الفكرة فذاتها. النوع الآخر يمكن اختصاره بالنوع الخاص بالتكاثر وفعل الأشياء اليومية والذين هم تحت القانون وسلطته.

ما من وقت مناسب وغير مناسب في المنابر الثقافية لتقديم الحالات الفكرية العميقة التي حكمت منطق الفن لأجيال عديدة ولا زالت، ولا ريب ثمة أجيال كاملة، بحاجة لأن تعرف مرة أخرى، أو ربما للمرة الأولى، أن ثمة وجود لفكر متقد وهو في متناول اليد، والأهم، ينمي الملكات العقلية، ومسل.

تمّام علي بركات