ثقافةصحيفة البعث

نظرية الألم

ماتت قطة الحي.. لاليست قطة الحي ففي الحي قطط كثيرة، وهي بالتاكيد ليست واحدة منهم، أو ربما كانت واحدة منهن، أو لعلها مجرد زائرة!! في الحقيقة هي لم تمت، بل قُتلت..! أعني عبرت الطريق ودُهست، أو ربما قررت أن تنتحر من يدري ظروفها، وهل للقطط ظروف…!!؟ تفاهات مضحكة تلعثم بها عقلي وأنا أراقب من شرفة المنزل هذا المشهد الصباحي الغريب، بل المتكرر، لكن اليوم يبدو عقلي أكثر ضجيجاً وعناداً من أن يدع هذا الأمر يمر كما يمر في كل مرة أشهد حوادث القتل هذه، أو الانتحار…! أغلقت النافذة وعدت لعزلتي ولامبالاتي، حاولت أن أستكين لسباتي العقلي الطويل، ولكن عبثاً حاولت.. ترى هل حدثت الجريمة صباحاً أم مساء..!هل تألمت…!؟ مهلاً لماذا افترضت أنها أنثى!!؟ إذاً هل هو شباط…! ولكن كيف تذكرت شباط..! إنه موسم الزواج ربما كان لها أولاد ينتظرونها…! عدت لافتراض أنثويتها…!! حسناً لنعترف ستغدو الجريمة أكثر ترويعاً لو أنها كانت مؤنثة، ستبدو مثيرة للزندقة الإنسانية!!حاولت أن أبني مسرح الجريمة في ، أن أعيد ترتيب خطوات موت هذه القطة بعد أن تأكدت من سؤالي لنفسي أنها بالفعل قطة، ترى في أي ساعة ماتت!! وهل شعرت بألم عميق…! أي ألم…! تذكرت منذ مدة أني قرأت خبراً مفاده أن السمك يتألم!! وبتأكيد محسوم من العلم…! دغدغ هذا الاكتشاف مشاعري.. حسناً إذا كان السمك الذي لطالما اعتبرته غبياً ومتخلفاً عنا نحن سكان اليابسة يشعر بالألم، فلم إذاً لا تكون تلك القطة قد تألمت هي الأخرى، ولو بمقدارِ أقل عن ألمنا نحن الكائنات البشرية على اعتبار ذكائنا وتطورنا وتمدننا، لا بد كان لها حياة قبل هذا الموت، سرح خيالي مفكرة كيف كانت تعيش!! أين كانت تنام!! ماذا كانت تأكل، بماذا كانت تحلم…!! تحلم…! من!! القطة ضحكت من أعماق قلبي لأنه الفراغ الممتلئ خذلان يجعلني أتهيأ أحداثاً، وأضرب أخماساً بأسداس في محاولة معرفة من قتل تلك القطة المرمية في منتصف الشارع دون حياة.. حاولت أن أخرجها من رأسي، نظرت لمدفأتي التي لم أشعلها هذا الشتاء لأني لا أملك ثمن وقودها، ومن ثم لجواربي الممزقة التي لم أجرؤ على استبدالهم بجوارب جديدة لخوفي أن تبتلعهم غسالتي.. آه.. غسالتي إنها معطلة.. كم أشعر بالفقر…! لطالما ارتبطت لدي الجوارب المثقوبة بالتشرّد.. كدت أبكي على نفسي لولا أني شغلتها بالتلفاز، ومن قناة لأخرى.. عدت لقناعاتي ورضوخي..كنت أبتسم… أجل أبتسم لأخبار القتل، والسحل، والتفجير، والتهجير، وقطع الأطراف.. كم أنا غنية بجواربي المثقوبة أمام كل هذا الألم والموت…! تذكرت القطة كم هي محظوظة هي الأخرى، أو بالأحرى كم كانت محظوظة فهي لم تكن ترتدي جوارب، مبارك هو عريها، بل حتى أن حالها أفضل من حالي وحال الآلاف ممن أعرفهم، هي لاتموت بتفجير، ولاُتكفّر ولا تُهَجّر، ولا تُقَطّع أوصالها، ولكنها مع ذلك ميتة.. المسكينة.. عدت إلى النافذة وبحركة سريعة أزحت الستارة، كانت لا تزال حيث ماتت، وجميع المارة في الشارع لا أحد ممن رأيتهم اقترب منها أو حتى نظر إليها كانوا يملأون أفواههم بصاقاً ويرموه عليها أو جانبها، دون أن أعرف أو يعرفوا لماذا..!!؟ حاولت أن أستذكر إن كان خبر السمك تضمن معلومات حول أحاسيسه بالإهانة والخزي تجاه البصاق.. ولكن المعلومة كانت واضحة إنه يحس بالألم عندما يُقتل، وعدت لوعي مرة أخرى أو ماشبّه لي أنه وعي.. إنها مجرد قطة. أرخيت الستائر وقررت أن أنزل لأغطيها، فهذا أقل مايقتضيه الواجب تجاه الأموات بغض النظر عن ظروف موتهم وتفاصيل حياتهم، أنا غير ضليعة بالتجارب العلمية ولكنني أعتقد فيما أعتقد أنها ستفرح أكثر لو غطيتها من سيل قرفهم وبصاقهم جيران الحي الذين بالتأكيد لم يسمعوا بنظرية الألم خاصتي، ماذنبهم.!؟ إنهم لا يقرأون أخباراً علمية ولا يتصفحون على هواتفهم إلا الأخبار الفنية والإشاعات الفضائحية! أخذت معي قطعة قماش مهملة وقررت أن أتحدى عزلة أفكاري، وضيق آدميتي، وأغطي هذا الشيء الذي كان حتى البارحة حياً، وبخطى متثاقلة كتثاقل أفكاري نزلت إلى حيث رقدت القتيلة..! ومع كل خطوة كنت أتخيل كم كانت قطة مليئة بالحياة.. لا بد أنها كانت سعيدة.. ترى هل كانت من حيّنا!؟ ربما هي عاشقة هنا! ضحكت لافتراضاتي الغبية، ولكن محاولة إعادة الحياة لها في مخيلتي يبدو مغرياً، فهذا يعطي لهذه الخطوة مشروعية ممكنة بالنسبة لي وأنا على وشك تحطيم قداسة وحدتي وبغض أفكاري لأغطي شيئاً أحاول أن أقيم له وجوداً ما.. وصلت إليها ونظرت لجسدها بكل ما أوتيت من وعي وثبات…ماهذا.!؟ إنها تشبه الكلب..! إنها حتى ليست أنثى كلب بل مجرد كلب..! يا لحزني وتعاسة رواياتي لقد تبخرت أحلامي وقطّتي.. حتى القطعة القماشية في يدي شعرت بالخذلان وفقدت منطقها وقواها وتهاوت من يدي لقد انهارت في لحظة خوارزمية وجودي.. هل يجب عليّ كتابة القصة منذ البداية واستبدال الممثلين… حتى أقتنع أنا وقطعة القماش بما سنفعله من تبديل!؟ وقفت عاجزة عن التقدم أو حتى الرجوع.. وفي غمرة هزيمتي كانت لحظة.. ثانية واحدة أو بضع ثوان، كانت كافية لطفل في السادسة أن يخلع معطفه الصغير ويغطي هذا الشيء الممدد في مخيلتي مكفناً إياه بنظرة استغراب ورضى وبدون التفات مضى مع طفولته بعيداً عني وعن جهنمي… لم أصدق ماجرى، إنه لم يفكر.. ألم يلاحظ أنه ليس قطة… ولكن ما الفرق لديه!! هل يا ترى قرأ بالصدفة عن نظرية الألم لدى السمك وأسقطها على هذا الكلب أسرع مما فعلت أنا!؟مسكينة هي أفكاري، إسقاطاتي.. بل أشد إيلاماً هي وقماءةً من بصاقهم.. حتى قطعة القماش شعرت بالألم والقرف وانسحبت بعيداً عنّي وعن نظريات الألم والحياة خاصّتي!.
بثينة أكرم قاسم