الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عنب دوماني (2)

د. نضال الصالح

لم يكن من عادة أستاذ المقرّر الاستجابة لأيّ رغبة في المشاركة بين طالبين أو أكثر في كتابة بحث، لأنّه، وهو العائد من الإيفاد حديثاً، كان يؤمن بأنّ الإنسان الناجح، شأن الدول الناجحة، هو الإنسان الذي يكتفي بنفسه، وأنّه لا يلجأ إلى سواه إلا في الأعمال التي لا يمكنه إنجازها وحده، ولطالما كان يتساءل: فكيف إن كان الأمر يتعلّق بكتابة بحث؟.

تلك كانت المرة الأولى التي وجد الأستاذ نفسه فيها يمسك بقراره، ويطوّح به عالياً في الهواء، أي عندما تمّنت ميسون عليه، وهي تدفع بمزيد من الدماء الحارّة إلى خديها الفائرين بلون الورد، أن يسمح لها بمشاركة مهيار، زميلها في الدراسات العليا، فيسقط الأستاذ صريع غوايتها تلك، فيوافق على طلبها، فيتغامز الطلاب فيما بينهم، ولكأنّ كلاً منهم يقول للآخر: “شجرة الخلد ومُلك لا يبلى” وهو يقصد الآية التي حكت حكاية هبوط آدم وحوّاء إلى الأرض.

تاريخ الغوطة، ذلك كان هو البحث الذي اختارته ميسون كما اختاره مهيار، وكانا يمضيان نهاراتهما بين غير مكتبة لهاثاً وراء المراجع التي تعينهما على إنجازه على نحو يتميزان معه من زملائهم الآخرين في السنة الممهدة للماجستير، وكان مهيار اختاره من سواه ممّا ينطوي تحت عباءة البحث التاريخي لأنّه ابن تلك المدينة التي تتوسط الغوطة الشرقية، والتي تُجمع مصادر التاريخ على أنها تعود إلى الحقبة الآرامية، دوما. أمّا دافع ميسون إلى مشاركته البحث، فلم يكن أحد يعرفه سواها لأنّها كانت تحرص على أن يبقى أحد أسرارها العميقة.

ميسون أو حبّة العنب كما كان مهيار يناديها عندما يكونان وحيدين، فيزداد لون الورد في وجنتيها سحراً، وتودّ لو تجهر بما تقوله لنفسها سرّاً: “فكيف إن رشفتَ بعض ماء العنب؟”، وتكتفي بالقول وهي توقد نار الغواية على طرفي شفتيها: “أغباني يا مهيار أغباني”، وكانت تقصد لو أنّ ما حدث في الغوطة لم يحدث، فيحمل إليها قطعة من قماش الأغباني الذي تعشقه، والذي تشتهر نساء مدينته بصناعته، فيهزّ مهيار رأسه وهو يخنق حسرات طائشة في أعماق صدره، ويستعيد تلك الصورة التي لن تبرح ذاكرته، صورة مغادرته وأسرته دوما فجر ذلك اليوم الذي استيقظت المدينة فيه على وقع رصاص غزير يثخن صباحها بالدم، والدم، والدم، أي عندما اقتحم مسلّحون ملثّمون بأقنعة سوداء مخفر المدينة، ولم يسلم من رصاصهم أحد ممّن كان فيه.

ليس ثمة اتفاق بين المؤرخين حول تسمية المدينة باسم دوما، وأبرز آرائهم اثنان: الأول أنّ الاسم اسم علم روماني يطلق على المذكر والمؤنث، وأنّه نسبة إلى ابن أو ابنة الرجل الذي بنى أوّل دير مسيحي في ذلك المكان من الغوطة، واختار اسم ابنه أو ابنته اسماً للدير، فنُسب المكان إليه. والثاني أنّه نسبة إلى شجر الدوم الذي ينتمي إلى فصيلة النخليات، والذي كانت المدينة تشتهر بكثرته فيها قبل أن ينقطع نسله لسبب مجهول، فلا يبقى منه سوى واحدة جانب الجامع الكبير في المدينة.

دفعت ميسون بما نقلت عن أحد الكتب إلى مهيار، فقال: …….. (يتبع).