ثقافةصحيفة البعث

عن المعلم والتلميذ وأسرار المصلحة

 

تتعامل المهن عموما من قبل الناس، على أنها إرث عائلي، لا يعطى إلا لأحد الأبناء، الذي سيتابع بالمهنة نفسها بعد والده، وهو بدوره سينقلها إلى ابنه وهكذا، فالمنافسة قوية والسوق لا أخلاق تحكمه عموما، لذا لا بد من التميز بسرٍ خاصٍ في المهنة، وهو السر الذي يجعلها الأفضل بين بقية من يشتغلون فيها ذاتها. الأمر الذي ينسحب غالباً على ما يمكن تسميتها بـ “المهن الإبداعية”، والفنية منها بشكل خاص، كمهنة الإخراج بأنواعها -السينمائي -التلفزيوني –المسرحي-، بمثابة صندوق سحري مليء بالأسرار شديدة الخصوصية، التي يتعامل معها صاحبها بحرص بالغ، يصل في الكثير من الأحيان إلى مبلغ البخل الشديد في إعطائها لأحد ما، أو حتى كشف شيء من خصوصيتها باعتبارها سر المهنة أو سر الصنعة، التي توصل إليها صاحبها بشكل شخصي بعد عمر من التجارب الشخصية، التي أفنى بين حيثياتها عمره، وهو يختبر تلك الوصفة أو تينك التوليفة، للوصول إلى ما يرضيه ويمنحه شعوراً مهماً بالفرادة مهما بدا إنجازه قليل الشأن.
ولطالما اعتبرت تلك الأسرار إرثاً عائلياً تتناقله العائلات جيلاً إثر آخر، ليضيف كل جيل إليها خبرة تجاربه أيضاً، ويضعها بقالب مختلف في الشكل، إلا أنه مبني على الأساس الحقيقي؛ السر المصان بماء العين، إلا أن مخرجاً أسطورياً بما تحمل كلمة أسطوري من معنى مجازي، كسر قواعد هذه المعادلة المتفق عليها ضمنياً، وكأنها أمر بديهي، عندما قرر أن يضع صندوق أسراره السحري والإبداعي في متناول الجميع، لإدراكه العميق بأن الخبرة التي يحصلها الإنسان في سني عمره، سواء في مراحل خساراته وفشله أو مراحل نجاحه وألقه، ما هي إلا رسالة يجب أن تؤدى بإخلاص وتفان، ولا يكتمل معنى هذه الرسالة الإنسانية، إلا بإعطائها بعدها الإنساني، مهما طغى عليها الجانب التقني والرؤية الشخصية، إذ ما من عمل إبداعي، إلا ويقف بطبيعته على الأساسات الذاتية والفردية التي تحمل جينات صاحبها الخاصة وحده دون غيره.
المخرج (فرانك هاوزر)، مؤسس فرقة “ميودزيلا بلايرز” في جامعة أكسفورد عام 1956، والذي عمل كمخرج للكثير من العروض المسرحية التي قدمها في العديد من دول العالم لمدة سبعة عشر عاماً، ليستحق بجدارة عام 1968، جائزة أو وسام “قائد في الإمبراطورية البريطانية” أحد أكثر الأوسمة التي تمنحها الملكة رفعة، قرر (هاوزر) أن يفتح صندوق أسرار مهنته وحصيلة تجاربه الإبداعية الطويلة أمام العديد من طلابه، ومن بينهم تلميذه النجيب، (رسل ريتش)، ليسلمه مجموعة من اثنتي عشرة صفحة، خط بيده العجوز على أول صفحة منها، عصارة حياته المهنية، والتجارب التي قادته لاكتشاف عوالمه الإخراجية، تعليمات وصفها (ريتشل) بالنصل الحاد؛ لما وجده فيها من دقة ومنهجية عملانية تخترق العقل كالنصل الحاد، لكثرة ما صقلها (هاوزر)، ودأب على استلهام المهم والمستجد، والأكثر جدارة بالبقاء، إضافة إلى حذف العادي والمستهلك، الذي لا يقدم ما يخدم رسالته بالشكل الذي يرتضيه.
ما توصل إليه “رسل” بمراقبته لمعلمه من ملاحظات نقدية وفنية، تلك التي يتم توضيحها بالتجربة العملية، تبين كيف وصل المخرج البريطاني العتيق إلى ما وصل إليه في عمله، من خلال حديثه المكثف مع الممثلين وتحليله العميق للمشاهد التي كان يرسم أبعادها مراراً وتكراراً بعناية فائقة، وكيف تمكن أيضاً من الحفاظ على أجواء التدريبات وورشات العمل المسرحية التي تصبح روتينية بمرور الوقت بشكل مبهج وفعال، لكنها ببساطة هي قصة حياة هذا الرجل.
قرر التلميذ (ريتش) أن يكون وفيا لمعلمه، فصار منهجه التعليمي، مدرسة فنية، سعى “رسل” لإنشائها، معتمداً في عمله هذا على علاقاته بالعديد من النقاد السينمائيين والمسرحيين والفنانين الذين أعطوه نقاطاً مهمة لينطلق منها، بالإضافة إلى استناده على نقاشاته الطويلة حول هذه المهنة المتعبة مع (هاوزر)، مضيفاً إليها أيضاً خبرته التي اكتسبها من تجاربه الشخصية في هذه المهنة، وكان أن أحدثت أفكاره التي تعلمها خلال عمر مر، وهو بين يدي معلمه، أحدثت ضجة كبيرة في الأوساط الفنية والثقافية؛ فهذا النوع من الاشتغال السينمائي “القح” جاء كمحصلة لتجربة جيلين مختلفين في مهنة الإخراج.
ومن الأشياء أو المقولات التي حفظها عن ظهر قلب وروح “رسل” عن معلمه “هاوزر” ما قاله له ذات صفاء: “سيقال لك إن الإخراج لا يمكن أن يُحكى. على كل مخرج إيجاد طريقته الخاصة به وبناء علاقاته الخاصة مع زملائه في العمل.
تمّام علي بركات