ثقافةصحيفة البعث

“ليالي إيزيس كوبيا”.. مي زيادة في جحيم العصفورية

رسالة مطولة قليلاً تستعيد مي عبرها حكاية الموديل التي عشقها رودان العظيم الذي تنكر لها فيما بعد وسار بها إلى نهايتها المأساوية، كامي كلوديل التي أحبتها مي كفنانة، وآمنت أنها من أعطت منحوتات رودان أنوثتها وتخلت عنه: “عندما تخلى عني واستولى عليه غروره وأنانيته، برفقة عصابته وتواطؤ عائلتي زجوا بي إلى بيت الجنون، جوّعني بعد أن حاصرني ومنع عني كل إمكانية للعمل، هل الحب الكبير يورث الحقد؟”.

حدث ذلك ومي في أحلك أيامها في بيت جنون آخر زجها إليه حبها الأول ابن عمها جوزيف “يوسف أو جوزي” الحب الذي لم نكن لنعرف حقيقته وإلى أين وصل وكيف انتهى بها لولا المخطوطة التي عمل واسيني الأعرج على جمعها بعناء شديد يحكي عنه في مقدمة الكتاب، يوميات تكشف فيها مي ذاتها وعلاقاتها مع الآخرين كما لم نعرفها.

بداية الحكاية

هنا تبدو “مي” صفحة بيضاء تحكي كيف أن ما تبقى لها من الحب الذي استكانت إليه وهي تمر بحالة كآبة يقودها الأمان والثقة المطلقة بالحبيب، يمكن لها أن تقود إلى يأس مطبق وبالتالي إلى الدمار، لا يحميها منه قرب من إلهٍ لم ينج من أسئلتها وعتبها إذ “كيف للرب أن يتواطأ مع القتلة”؟.

خطبت إلى ابن عمها وقلبها يعشق شقيقه جوزيف الذي بادلها الحب ثم اختار السفر والزواج من سيدة فرنسية لتأمين مواصلته دراسة الطب في بلدها، الأمر الذي تسبب لها بصدمة كبيرة ما دفع بوالدها للرحيل بها إلى القاهرة كي ينسيها مرارة خيبتها، هناك ستدخل “مي” الحياة العامة لتكون إحدى سيدات الأدب وصاحبة صالون استمر لأكثر من ربع قرن يستقطب كبار نخب الثقافة حينها.

ستكتب أول نتاجها الشعري وقد نشرته باللغة الفرنسية والذي أوضحت في يومياتها أن خيار اللغة واسم “إيزيس كوبيا” كانا بقصد أن تحكي قصة حبها بحرية أكبر، الحب الذي خذلها والذي ستعاود اللجوء إليه لينقذها من حزنها وكآبتها بعد رحيل والديها، وفي لحظة من الحقد والغيرة من نجاحاتها ينتقم لرجولته كي تكون تابعة له بعد أن جردها من كل ما تملك فهي وحيدة أبويها بعد وفاة شقيقها الصغير، يسافر إليها في القاهرة يتحايل عليها يعود بها إلى لبنان إلى حيث العائلة هي من سوف يحتضن عذاباتها، ورغم خوفها الباطني الذي اعتبرته وسواساً لا يجب الركون إليه تترك له أن يسير أمورها جميعها لكنه ووفق منطق هو السائد حينها منطق الذكورة وتبعية الأنثى الحتمية ستدفع الثمن إذ يدفع بها إلى العصفورية “أبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني، وأنا أطالبه بالعودة، حتى استكمل برنامجه في أمري، فأرسلني إلى العصفورية بحجة التغذية وباسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين؛ أحتضر على مهل وأموت شيئاً فشيئاً”.

التقاط الأنفاس

هناك وحيث هي على حافة الهاوية ترغب بالموت وترفض الخضوع للعلاج تنبهت لجملة صدرت عن أكثر من ممرضة نفرت منها “السيدة شوكت” إذ قالت لها: “لن يتغير العالم بعد موتك، سيستمر عادياً كأن شيئاً لم يكن، استردي حقك ثم موتي”. إثرها ستكتب في العصفورية كما لم يكتب الكثير من العقلاء، تحكي معاناة الوجود في المكان، تتذكر طفولة لم ترغب إهدار براءتها بين جدران الأديرة والمدارس الداخلية والتربية القاسية والخوف من الله: “لقد كبرت في فراغ الرياح، وخوف الأيادي الناعمة للأخوات اللواتي كن ينزعن كل اشتهاء ينشأ في داخلي”.

تحكي عن حبها لجبران الذي فاق حضوره في الذكريات كل حضور، وتشرح كنه الفقدان الذي عانت منه لمرات ومرات، رحيل الشقيق والأم ووالدها الذي مات في حجرها: “تبعه الرجل الحالم والعاشق دوماً الذي عوض أخي الميت جبران سحرني بلغته وسحره المدوخين، كان يريدني قريبة منه، بينما هو فيّ، جزءاً مني، لكني رفضت أن أكون مجرد رقم في حديقة نسائه” إذ هو: “لا يشبهني في شيء، كبر في الحرية ومات فيها، لم أطالبه بأن يكون لي، لأني أعرف سلفاً أن أمراً مثل هذا مستحيل، الرجل حيوان بلا رادع نفسي، المرأة هشاشة مفرطة” وتبوح أكثر “لو قادني القدر نحو ذراعي جبران كنت طحنته بغيرتي وافترقنا بسرعة بشكل بائس وحزين وحقد لا يمحى” ليأتي خبر رحيله كالصاعقة “كان سندي وصديقي وأخي الذي لم تلده أمي، وحبيبي الآخر، موته دمرني ماتت بعده كل الأشياء، حتى الحياة”..

الأمل

تقاوم وجودها في المصح وترفض تناول الأدوية وتصرخ على الدوام أخرجوني لست مجنونة، لكن الأمل يأتي من حيث لم تنتظر “لم أكن أعلم بعد موجة اليأس والشك في كل شيء، أنه مازال على هذه الأرض بشر يشبهون الملائكة”.

زائر لا تعرفه قرر أن يتحول إلى جندي يقف في صفها لإيقاف الظلم الذي حاق بها “مارون غانم” تاجر من الناصرة، هكذا تنتشل نفسها من يأسها توقف إضرابها عن الطعام وتستكين للأدوية كي تخفف من كآبتها، فلا تعاودها ونوبات الغضب إلا عندما تستشار في زيارة ابن عمها، تستعيد قوتها وبعضاً من الوزن والتوازن إذ تقول ممرضتها المقربة بلوهارت “شوفي ما تقول جريدة المكشوف” وتقرأ:

“المكشوف تفضح المؤامرة التي وقعت للأديبة مي” تشعر أن صرختها تجاوزت أخيراً جدران سجنها، وبرغم أنها في كل مفصل واجهته كانت تستعيد حماقة حبها، إلا أنها بوجود من يستميت للدفاع عنها بدأت تتنفس الصعداء و”لم يعد الأمر مظلماً” إلى هذا الحد، عتبت في سرها وفي العلن على أصدقاء أورثوها بالتخلي عنها غصة لا تفارقها من طه حسين والعقاد الذي عشقته والمأزوم دائما من جبران، إلى لطفي السيد، إسماعيل صبري وحافظ إبراهيم وغيرهم “أفظع الأشياء أن تشعر أن لا نصير لك في عالم الخوف والصمت، أكاد لا أعرفني” إلا أنها بقيت على أمل وحيد في أن يراها قاتلها على غير ما اشتهى: “أن يراني أسترجع حقي في الحياة الذي طمسه”.

إلى الحياة من جديد

ستحزن مي على من غادرتهم نزلاء قبل العاملين في المصحة إلى مشفى رابيز، تلتقي الكثير من الأحبة في انتظارها أولهم آل الجزائري، ومن الشام آل الأيوبي ورئيس المجلس النيابي حينها فارس الخوري الذي تعيد تصريحاته بعضاً من الأمل يملأ قلبها بالنور، أما أمين الريحاني الذي “مر كالغيمة وكالظل انسحب” فينهي إقامتها في المشفى وينقلها إلى بيت أعدّه لها قريباً من عائلته، لكنها ستخرج من محنة إلى سواها، سيبدأ شيئاً ربما هو أقل قسوة من قبل ولكن” جسدي لم يعد يحتمل، فمن يبني مشروعه على الشر لن يتوقف عند هذا الحد”.

لم تصدق أن الفقر هو التهديد الجديد، بعد أن تم الحجر على كل ما تملك “بسرعة أدركت الحقيقة المرة، لو لم أجد الخير في أمين وبعض العوائل البيروتية كنت مت جوعاً وبرداً” ترفض الصلح وتستجيب لدعوة جمعية العروة الوثقى والأصدقاء للعودة والوقوف أمام الناس “مي زيادة الأديبة” وتخبر الحاضرين  عن “رسالة الأديب”.

العودة الأخيرة

استعادت مي ذاتها في اللحظة التي ظهرت فيها حقيقة الظلم الذي وقع عليها ولم تفكر إلا في شيء واحد “لكي أغفر للجميع أفكر في شيء واحد، أن أدفن في القاهرة إلى جانب أمي”.

ستعود إليها لكن ليس كالتي عرفها الجميع، ينقلب حبها للبعض كراهية وتغلق الباب في وجوه البعض حتى طه حسين، وتفكر أن محنتها ليست خاصة “ليست ترفاً بائساً، هي محنة المثقف العربي في أوهامه المرضية الذي استقر على ازدواجية مقيتة سترافقه إلى قبره” تلجأ إلى قلمها تكتب بلا هوادة، رغم أن شيئاً ما في داخلها بدأ ينطفئ، ستكتب كي تنسى كل شيء، وتستمر في الحياة، لكنها سرعان ما سترحل وقد أعياها التعب والمرض فتختلط عليها الهمسات والوشوشات ذات ليل، وتغمض عينيها للمرة الأخيرة على صورة والدتها، يوم الأحد/19/10/1941.

بشرى الحكيم